الأربعاء، 22 مايو 2013

في ذكرى النكبة/تأسيس دولة إسرائيل: "لن أكره"

ترددت كثيراً في كتابة هذه الكلمات.
كلمات لعل الكثيرين والكثيرات في الجانبين العربي والإسرائيلي يترددون في النطق بها. رغم إقتناعي أن أنفسهم وهن تهمس بها.
 صوت الأغلبية عادة ما يكون صامتاً.
تتابع، تراقب، تلتفت حولها، تريد حياة آمنة، كريمة، عادلة. تريد أن تحيا ومَن تحب بسلام. وحبذا لو تركوها وشأنها. وتصمت.
وفي مقابل صمتها، ترتفع في الجانبين العربي والإسرائيلي الأصوات المُطّبلة للحروب، عالية، زاعقة، غاضبة، تنفخ في النار، تؤجج معها الكراهية والحقد.
تقول لنا صباح مساء: "إياكم والنسيان. يكرهوننا. نكرههم.  فلنصر على الكراهية".
وأنا تعبت من الكراهية.
أنا لا أكره.
-----
قلت أني ترددت في كتابة هذه الكلمات. 
كنت دوماً ارغب في كتابتها. لكني كنت أتراجع، أقول لنفسي، "ليس هذا وقت الحديث"، واحذرها، "ستفتحين على نفسك جبهة جديدة. ألم تتعبي بعد؟ وسيلعنونك من جديد".
بيد أني  اليوم، في ذكرى النكبة/ تأسيس دولة إسرائيل التي مرت، قررت أن أكون صادقة. أقول كلماتي كما هي دون أن أراجعها. 
قررت أن وقت هذا الحديث هو اليوم.
ولذا، سأبدأها  بعبارة قد تكون مزعجة للكثيرين:أنا لا أتعامل مع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من منطق متحيز لجانب واحد.
أتحيز للإنسان، نعم.
أتحيز للضعيف، نعم.
لكني في كل هذا أرى صراعاً له طرفان، وأرى الطرفين معاً. ثم أرى الإنسان فيهما.
وكي أكون صادقة، لا أرى في الإسرائيليين والإسرائيليات عدواً. 
لا أريد لهم ولهن الأذى.
لا أريد لهن ولهم الدمار.
أريد لهم ولهن سلاماً وأماناً، تماماً كما أتمناه للفلسطينيين والفلسطينيات.
 أرى الإنسان في الإسرائيليين والإسرائيليات.  تماماً كما أرى الخوف الذي يسكنهم وهن.
لكني لا أتعامى عن أراضٍ اُنتزعت وتُنَتزع، وواقع احتلال جبار غير عادل، يقتل الإنسان الفلسطيني وكرامته، وينتهك أدميته في المناطق الفلسطينية.
تماماً كما لا اتغاضى عن التمييز الذي يتعرض له العرب الإسرائيليون، في دولة لازال بعض الساسة فيها لم يقتنعوا بعد بأن على الدولة أن تخدم كل مواطنيها ، على حد تعبير رجل الأعمال الإسرائيلي ستيف فيرتهايمر.
هذا مهم.
ارى  الجانبين معاً، الأثنين معاً. وانشد السلام والآمان لهما، معاً.  
وكما أرى الجانبين، أتابع أيضاً النافخين في النار. لا أغمض عيني عن الكراهية التي يؤجج لها التطرف الديني اليهودي والإسلامي على حد سواء.
تلك الكراهية قائمة. ونموذجها المستوطنون وحماس في الجانبين. كلاهما يحتاج الآخر كي ترتفع رسالة الدمار التي يدعوان إليها. ينشرونها  على الجانبين ناراً، تلتهم بألسنتها الإنسان فيهما.   
رغم ذلك، أُكرر: أنا لا أكره.
لا أكره.
لا أكره الإسرائيليين والإسرائيليات.  تماماً كما أني لا أريد دمار دولة إسرائيل.
وفي الوقت الذي ادافع فيه عن حق الفلسطينيين والفلسطينيات في إنشاء دولة توفر لهم الاستقلال والأمان والرفاه، وأرفض سياسية الاستيطان  الممنهجة التي تنسف السلام من جذوره، ادرك ايضاً أن اكثر الأصوات المعارضة لسياسية الاستيطان إسرائيلية .
أكثر الأصوات المعارضة لسياسية الاستيطان تنبع من داخل إسرائيل نفسها.
وأن اكثرها دفاعاً عن حقوق الفلسطينيين منظماتٌ إسرائيلية، على رأسها منظمة السلام الآن الإسرائيلية. نقف أمام ما تفعله في سبيل تسوية عادلة ونشعر بالخزي من جعجعتنا الصوتية.
-----

رؤيتي هذه تجعلني أتعامل مع هذا الصراع بصورة مختلفة.
تضع الإنسان في لبه، فلسطينياً كان أو إسرائيلياً.
أتجاوز الحكومات وابحث عن الإنسان، عن الإنسان فينا، في العربي، الفلسطيني، الإسرائيلي.
وأمد يدي له، أحمل غصن زيتون، لا خنجر.
ثم أتحيز لهذا الإنسان، أياً كان.
أتحيز للطفل الفلسطيني والإسرائيلي.
للطفلة اليهودية المسلمة والمسيحية.... والهويات عديدة.  
لو نزعنا الهوية عنهما، لرأينا "طفل وطفلة"=  إنسان.
-----


تسألاني، عزيزي القارئ، عزيزتي القارئة، لم قررت أن أكتب هذه الكلمات اليوم؟
لأني قرأت كتاباً. أعطته لي صديقة عزيزة.
أكملت قراءته قبل أيام. إلتهمته في الواقع إلتهاماً.
عنوانه "لن أكره". نشرته دار نشر كندية عام 2011، وُترجم إلى عشرين لغة منها العربية، والعبرية والألمانية والإيطالية والصينية والإندونيسية.
كتبه طبيب من قطاع غزة. د. عزالدين أبو العيش.
طبيب شب في مخيم جباليا بقطاع غزة، ورغم طاحونة الفقر التي اجبرته على العمل وهو يدرس، تفوق في دراسته، وأصبح طبيباً في مجال الوراثة والإخصاب، وعمل في مستشفيات إسرائيلية في مجال اختصاصه .
كان حلقة وصل بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
جسر.
يؤمن بأن السلام لا يتحقق بالكلمات والأماني الطيبة. بل بالتواصل والمواجهة الصريحة ثم التعايش اليومي.
لا يجامل عندما يتحدث عن واقع الاحتلال.
لا يجامل، لا يداهن، لكنه لا يكره.
كان يخاطب الإنسان فيهم وهن.
ولذا كان لحديثه وقع على آذان الإسرائيليين.  
ثم بدأ يحمل المرضى من الجانب الفلسطيني إلى الجانب الإسرائيلي، ليعالجهم أطباء إسرائيليون يؤمنون مثله بالإنسان الذي في غيرهم.
نفس هؤلاء الأطباء هم الذي تكبدوا المشاق مع السلطات الإسرائيلية كي يستخرجوا للدكتور أبو العيش تصاريح العمل والدخول إلى إسرائيل.
إلى أن أنهار العالم من حوله.
في 16 يناير 2009 في هجوم إسرائيلي على قطاع غزة، دمرت قذيفتان جزء من منزله وقتلت ثلاث من بناته (من ست بنات وولدين)، بيسام في الواحدة والعشرين من عمرها، ميار في الخامسة عشرة من عمرها، وآية  في الرابعة عشره من عمرها.
غيره كان سيكره. وهل يمكن أن نلومه إن فعل؟  
لكنه لم يفعل.
لم يفعل.
لم يكره. بل كان أكثر تصميماً.  
خرج من هذه المحنة مصمماً على رسالته: "لن أكره".
 هو "لا يكره الإنسان. بل يكره فعل هذا الإنسان
كان قادراً على الغفران،  وفي الوقت ذاته يردد "هذا لا يعني أن لا نعمل من أجل تصحيح واقع هذه المظالم".
وبدلاً من أن يجتر فقده في ذخيرة حية للحقد والكراهية، حولها إلى طاقة إيجابية، أسس منظمة إحياءاً لذكرى بناته الثلاث، تقدم منحاً دراسية للمتفوقات الفلسطينيات والعربيات. بدلاً من الكراهية، وفر مستقبلاً للألاف من الفتيات.
كتابه جعلني افكر في صمتي.
في الواقع جعلني أخجل من صمتي.  
قلت لنفسي، رغم ما حدث له وجد الشجاعة كي ينطق بتلك العبارة القصيرة "لن أكره".
 قصيرة لكنها تحوى  الكون بأسره حباً وضياء.
ولذا أرددها أنا الأخرى من بعده.
"لن أكره".
ثم اطرح السؤال، ألم يحن الوقت كي ننشأ حركة سلام مشتركة من الجانبين العربي والإسرائيلي، تتجاوز "الأمنيات والابتسامات" إلى "الفعل المشترك، الذي يقرأ التاريخ بمنظور الجانبين، ثم لا يتغاضى عن الآلام والجروح القديمة"؟
حركة سلام مشتركة تضغط على حكوماتنا، كي ننهي هذا الصراع الذي يقتل الإنسان فينا كل يوم.
فعل مشترك يفتح لنا آفاق مستقبل، وأمل.
ألم يحن الوقت لذلك؟
كم من الدماء يجب أن تسيل إلى أن نتوصل إلى قناعة أن العنف لا يولد إلا عنفاً، وأن الكراهية لا تنبت إلا عنفاً.
وأن "العين بالعين، والعالم يصبح أعمى". على حد تعبير المهاتما غاندي. 
أقول هذا وأنا أعرف أن الأصوات سترتفع في وجهي من جديد، تلعنني من جديد، وتصر: "إياكم والنسيان. يكرهوننا. نكرههم.  فلنصر على الكراهية".
لكني قررت أن اكون صادقة، وأقولها لكما كما أؤمن بها: أنا لا أكره، بل أحب.


إلهام المانع تتحدث عن الحرية ووضع المرأة العربية وبشرية النص الديني في حوار نشر في جريدة النهار البيروتية


إلهام المانع تتحدث عن الحرية ووضع المرأة العربية وبشرية النص الديني:
نتحرر عندما نقرر أن نكسر الصمت وجدار الخوف في أنفسنا
اجرى الحوار: حميد زناز
http://newspaper.annahar.com/article.php?t=adab&p=1&d=25036

إلهام المانع أستاذة مشاركة في معهد العلوم السياسية في جامعة زيوريخ، كاتبة وناشطة حقوقية، وعضو في اللجنة الفيديرالية السويسرية لحقوق المرأة. ذات جنسية مزدوجة، يمنية وسويسرية، متزوجة من سويسري وأم لطفلة، وتقيم في سويسرا. لها مؤلفات بحثية وحقوقية بالعربية والإنكليزية والألمانية كما لها روايتان عن دار "الساقي" في بيروت، "صدى الأنين" 2005، و"خطايا" 2008. كتابها الأخير صدر بالإنكليزية في لندن عن "دار روتليدج" بعنوان "الدولة العربية وحقوق المرأة: فخ الدولة المستبدة". معها هذا الحوار.

¶ الحجاب حمل لعبء قيم سائدة وأثقال تربية منغلقة ورمز ثقافة ذكوروية مريضة. في ندائك الشهير الموجّه إلى المرأة المسلمة "اخلعي الحجاب!" فجرتِِ قنبلة فكرية. ما دواعي هذا النداء الجريء في وقت يتصاعد فيه المد الاصولي بشكل غير معهود؟ وكيف يمكن المرأة أن تتخلص وحدها من هذه الاثقال؟
- كان النداء ضرورياً، ولا يزال. عرضتُ أكثر من مرة على طالباتي وطلابي في مادة الجندر والدولة العربية، التي أدرّسها، صوراً لحفلات تخرج في جامعة القاهرة، تحديداً منذ الخمسينات إلى وقتنا هذا (صورة لكل عقد). في الخمسينات لم تكن هناك إمرأة محجبة واحدة. كل الطالبات كنّ سافرات. في عام 2007 كل الفتيات باستثناء فتاة أو إثنتين كنّ محجبات. الحجاب إذاً تغيير اجتماعي تغلغل في عقولنا، اسست له إيديولوجيا دينية سياسية تقول للمرأة إنها عورة، فتنة، وإن عليها حماية الرجل من فتنتها. وإنها هي المسؤولة عن إغواء ذلك المسكين الضعيف. عليها أن تغطّي شعرها، جسدها، وحبذا لو اقتطعت من نقابها فجوةً لعينها اليسرى كي لا تغوي المسكين بعينيها الإثنتين! إنها إيديولوجيا تصرّ على أن الرجل حيوان مسعور، يلهث وراء لحم المرأة، لا يستطيع ان يسيطر على غرائزه. وحش يجب لجمه، واللجام هو حجاب المرأة. مسكينة هذه المرأة. إنها ليست كائناً في نظر هذا الاتجاه الديني، ليست إنساناً. ليست كائناً مستقلاً. هي جزء من رجل. عليها أن تطيعه، وإذا لم تطعه لعنتها الملائكة، كأن الله رجل. في طبيعة الحال، تلك الإيديولوجيا الدينية السياسية وجدت المناخ مهيأ لها في مجتمعاتنا منذ البداية، وخصوصاً أن مشروع "الحداثة" الذي تحمست له دول المنطقة بعد استقلالها، أخذ من الحداثة قشورها، ولفظ جوهرها. النتيجة هي ما نراه. إلى يومنا هذا، اعتدنا كثيراً على التأكيد أن مسألة الحجاب "شخصية"، تُترك للمرأة، هي التي تختار. على الأقل هذا ما يقوله تيار الإسلام السياسي عندما يكون خارج السلطة، لكنه، لحظة وصوله إلى السلطة، يحول المسألة "الشخصية" إلى مسألة "فرض". يفرضها على المرأة رغماً عن أنفها. لم أفهم إلى يومنا هذا أي "خيار" تتمتع به المرأة من خطاب يقول لها "إذا لم تتحجبي فستحترقين في جهنم. والخيار بالطبع لك!". اقتناعي ان "الحجاب" مرآة لرؤية مجتمعية دونية للمرأة والرجل معها. هو جزء من "مشروع سياسي فاشي"، يسعى إلى قولبة المجتمع، والمرأة هي في صميم هذا المشروع. لحسن الحظ أن وصول حركات الإسلام السياسي إلى السلطة كشف القناع عن وجهها، وخصوصاً أن كل ما كنا نخشى أنها ستفعله، تفعله اليوم. حان الوقت لنزع ذلك الحجاب.
¶ ما هي في رأيك طرق تحييد الدين في العلاقة بين الرجل والمرأة؟
- تحييد الدين يبدأ بإصلاحه، وإصلاحه بصورة تكسر الدوائر المغلقة للتفكير. أو بعبارة أخرى تقتحم المجال المحظور التفكير فيه. إلى يومنا هذا عندما نتحدث عن القرآن نتردد في أن نُقر ببشرية القرآن. وأعني ببشرية القرآن تماماً ما تعكسه كلمة "بشرية". القرآن كتبه بشر. النسخة التي تم إقرارها في عهد الخليفة عثمان بن عفان هي نسخة "رسمية للدولة". أنا لا اقول ذلك لمجرد كسر المحظور. أقوله كي نتمكن من الخروج من الدائرة المفرغة التي ندور فيها منذ عقود، لأن القرآن هو كنيستنا. القرآن هو كنيسة الإسلام، وكي نتمكن من التحرر من كنيستنا، سيكون علينا أن نتحرر أيضاً من النص القرآني. كلما تحدثنا عن المرأة أشرنا إلى نصوص قرآنية. بعضنا يستخدمها ليؤكد ان الإسلام يحترم كرامة المرأة، والبعض الآخر يستخدمها ليؤكد أن عليها طاعة الرجل، وان الأخير قوّام عليها. في الحالتين، المرجع هو القرآن. عندما نقر ببشرية القرآن سيكون من السهل علينا أن نقول ببساطة، نعم هذا النص موجود في القرآن الكريم، لكنه لا يتماشى مع واقعنا اليوم. متى وصلنا إلى هذا الاقتناع سيكون من اليسير فصل الدين عن الدولة، لأن هذا الفصل هو الخطوة الأساسية لتحييد الدين في العلاقة بين الرجل والمرأة. حينها تُسَنّ قوانين للأحوال الشخصية لا تعتمد على القواعد الفقهية الدينية كمصدر.
¶ كيف تفسرين التشبث المرَضي بالماضي لدى العربي المسلم عموماً، وما رأيك على وجه الخصوص بمسلمي الغرب الذين يحاولون تديين الحضارة في وقت هم في أشد الحاجة إلى تحضير دينهم ليتماشى مع القيم المعاصرة؟
- من لا حاضر له يبحث عن وجوده في الماضي. غياب هذا الحاضر يتحمل مسؤوليته الكثيرون. الدولة المستبدة خلقت فراغاً سياسياً وفكرياً، ترك المجال لتغلغل تيارات الفكر الإسلامي السياسي؛ وغياب مشروع إصلاح سياسي وديني منذ نشأة الدولة الحديثة خلق دولاً كرتونية غير شرعية، تتحكم فيها نخبة، تعبّر عن مصالح اقلية في المجتمع. ولأنها تعرف أنها دول غير شرعية، تركت للأجهزة الأمنية العنان، فقتلت كرامة الإنسان في وطنه. هذا يأخذنا إلى موضوع مسلمي الغرب. معظم من هاجر إلى الغرب، خرج بحثاً عن حياة كريمة ومستقبل. الكثيرون وجدوا هذه الحياة. على رغم ذلك، نجد أن هناك بعض الجاليات المسلمة، عمدت إلى تحويل "الدين" إلى "هوية"، وامتزجت بهذه "الهوية" المستوردة إلى المدى الذي جعلها تعيش معزولة عن المجتمع المحيط بها. أقول المستوردة، لأنها لم تأخذ بالدين كما يعاش ضمن إطاره المجتمعي، بل كثيرا تتلقف قوالب فكرية تصدرها دولٌ خليجية. الأخطر، أن الفكر الديني السياسي، بصوره الإخوانية، السلفية، الجهادية، والشيعية، امتد إلى بعض الجاليات المسلمة، فنجده يُدرَّس كمناهج للأطفال في المساجد، وينشر في الحلقات الدينية، والكتب التي توزَّع، والخطب الدينية التي تُلقى كل جمعة. النتيجة هي تعامل بعض الابناء والبنات من هذه الجاليات مع الدول الغربية التي احتضنتها بمنطق "عداء وكراهية". كأنها بقرة، يشربون ويشربن من حليبها، ثم تنهال أياديهن/م بالسكاكين في ما بعد لنحرها. المشكلة أن نمط السلوك نفسه الذي يلقي باللوم على الخارج في كل المشكلات التي نواجهها في حياتنا، يتكرر في أوساط تلك الجاليات. هناك إحساس دائم بأن المسلم والمسلمة "ضحية" ، وساهم في تعميق هذا الإحساس الاستخدام المتكرر لمصطلح "إسلاموفوبيا". على رغم إدراكي لخطورة التيار اليميني المتطرف في العديد من الدول الأوروبية، إلا أن معظم الجاليات المسلمة تتعامل مع حكومات تعمل جاهدة على احترام حقوق الأقليات. القول بإن المسلمين والمسلمات "ضحايا" يتجاهل أن هناك مشكلات مجتمعية كبيرة وكثيرة يتسبب فيها بعض من أبناء وبنات الجاليات المسلمة - الزواج القسري للفتيات، جرائم الشرف، ختان البنات- كما يتجاهل مواقف هذه الجاليات من أوطانها الجديدة، وخصوصاً أن انتشار مد الإسلام السياسي بين هذه الجاليات جعلها تصر على أن ولاءها لـ"الأمة" وليس لبلدانها الجديدة، وتعيش في الوقت ذاته داخل غيتوات مغلقة. مثل هذا الوضع يعطي ذخيرة لحركات اليمين المتطرفة للقول بإن هؤلاء "الأجانب"، ليسوا فعلاً "منا".
¶ "ولدنا أحرارا. الحرية ليست هبة. وحريتنا هي مسؤوليتنا. لذا كان مهما جدا أن نقرر. يجب أن نختار، ان نتخذ قرارا. وقرارنا هو المحك. هو الذي يحدد نوع الطينة التي بها جُبلنا. ولأننا أحرار كان قرارنا هو الفصل. لا خوف من عقاب، لا خوف من مجتمع، او حتى من الربّ. أحمق من يخشى غير نفسه". بهذا البيان تختمين روايتك "خطايا". كيف يمكن التحرر داخل ثقافة عربية إسلامية تخنق أنفاس الفرد وتعادي الحرية؟
- نتحرر عندما نقرر أن نكسر الصمت وجدار الخوف في أنفسنا، عندما نعبّر عن آرائنا كما نؤمن بها، عندما ننطق بها في كلمات واضحة ثم ندافع عنها. آنذاك فقط نتحرر.
¶ في كتابك الصادر بالالمانية "سأكسر جدار الصمت: الإسلام، الغرب، وحقوق الإنسان" 2009، قدمتِ رؤية عن إسلام إنساني يقوم على أربعة عناصر: الهوية، الحرية، إنسانية المرأة، وبشرية النص القرآني. هل يمكن في رأيك إصلاح الاسلام من دون المس بكنه الاسلام ذاته؟
- كنه أي دين هو علاقة روحانية مع قوة أكبر من الإنسان. لا أكثر ولا أقل. هذه العلاقة من الممكن ان تأخذ أشكالاً متعددة. فأيّ دين، أياً يكن هذا الدين، ما هو إلا وسيلة يستخدمها من يريد أن يؤمن. لذلك ليس هناك دين أفضل من دين آخر. كلها طرق، تصل بنا إلى الهدف نفسه. بكلمات أوضح، الإيمان يمكن أن يصل إليه الإنسان من خلال الأديان الإبرهيمية، اليهودية والمسيحية والإسلام، أو من خلال الأديان الهندوسية والبوذية، تماماً كما يمكن أن يصل إليه من دون دين. الدين ما هو إلا غلاف أو قشرة خارجية. أما المضمون فهو العلاقة الروحانية التي تربط بين الفرد والرحمن. كوني اقول ذلك يعني بداهة أني افترض أنه لا يوجد دينٌ كامل. ليس هناك دينٌ كامل. والإسلام أولها. الدين يصنعه الإنسان. كما أن الإنسان يصنع التغيير، فإنه هو من يجعل من الدين "سلاح كراهية" أو "غصن زيتون محبة". هذه الرؤية للدين تتطلب حتماً التعامل معه بشكل "نسبي"، فكما أن كل شيء يتغير، يتغير الدين. وطالما ان الهدف هو تنظيم علاقة الإنسان بالخالق (إذا أراد هذا الإنسان ان يؤمن) فإن كل ما عداه يخضع للتغيير.

عندما خرجت أتمشى: عن التحرش وحملة شوارع آمنة



تراقص المشهد أمامي، وأنا أقرأ كتاب "يحدث في الطريق"، التي أطلقته حملة شوارع آمنة اليمنية. 
وتذكرت. 
نصف ابتسامة تمتزج بالأسى تتأرجح على شفتي.
تذكرت أول ما فعلته عند وصولي إلى السكن الطلابي في مدينة بافلو، ولاية نيويورك الأمريكية. كان ذلك قبل عشرين عاماً تحديداً. 
كنت قد حصلت على منحة الفولبرايت الأمريكية، وبقائي في بافلو كان مؤقتاً ضمن برنامج توجيهي يهدف إلى تعريفنا، نحن الطالبات والطلاب، بالبيئة الجديدة التي تنتظرنا. 
تذكرت كيف القيت نظرة عابرة على غرفتي، جميلة، لكن ذلك لم يكن شاغلي. وضعت حقيبة ملابسي سريعاً، ثم 
خرجت من غرفتي مصممة. 
عاقدة العزم. 
فرحة. 
أكاد أختنق من التوقع. 
لا أريد سوى شيئا واحداً: أن اتمشى. 
أن اتمشى. 
في الشارع.
وحدي.
كان ذلك اول ما فعلته عند وصولي إلى بافلو. 
تمشيت! 
وتمشيت فعلاً. وحدي.
استنشقت الهواء بملء رئتي، جمعت ألوان الطبيعة بعيني، وودت لو أغلقت جفني عليها، كي تمتزج بروحي. وسلام يصافح الكون بجلاله يملأ نفسي. 
لم أعرف حجم الأذى الذي كنت اتعرض له في شوارع صنعاء، إلا في تلك اللحظة. 
في تلك اللحظة. 
ادركت حينها سبب جوعي للتمشي. 
أردت أن أتمشى دون مضايقة، دون أعين تخترقني، دون كلمات تجرح روحي. 
أردت أتمشى دون أن أشعر أني كتلة من لحم تتربص بها مجموعة من حيوانات مسعورة. 
أردت أن اتمشى بأمان. 
هنا لا يتربص بي أحد. امشى بكرامة. لا اضع على وجهي غضب الله كي ارهب من تسول له نفسه التحرش بي. هنا أمشى وانا مبتسمة. 
الرجال يمرون بجانبي، لا يتحرشون. 
تذكرت ذلك المشهد وانا أقرأ كتاب "يحدث في الطريق" الذي شارك في أعداده مجموعة من الشابات والشباب اليمني، من الناشطات والناشطين. 
كتاب يحكي عما يحدث لنا في الطريق، نحن، من الطفلات، الفتيات، والنساء. 
حصلت على نسخة من الكتاب من مديرة حملة "شوارع آمنة لمناهضة التحرش الجنسي في شوارع اليمن"، الناشطة غيداء مطهر العبسي. ارسلته لي عبر الفايس بوك. شكرت لها رغبتها في أن اطلع على الكتاب ونتائج الحملة. واستأذنتها أن أكتب مقالاً عنه. فسمحت لي. 
غصصت وأنا أقرأ صفحات الكتاب (وصلة الكتاب أدناه). 
صفحة بعد أخرى. 
امتهان بعد أخر. 
لطفلة في العاشرة، لطفلة في الثانية عشرة من عمرها، لفتاة، لإمرأة متقدمة في العمر. والحكايات والسرد معها في توالي . 
وسواء أن ارتدت شرشفاً يطبق بالأسود عليها، او كانت مرتدية حجاباً يفسح مجالاً لضياء وجهها، الأمر لن يختلف كثيراً. التحرش يحدث. لنا، لهن، في كل مكان. في الشارع، في التاكسي، في الباص، في مكان العمل، ثم من الجيران. 
كأننا ارض مشاع، يحق لكل من يريدْ، أن يضع يده عليها. 
اعيش منذ عشرين عاماً في دول غربية. 
ولم اتعرض يوماً واحداً للتحرش في الشارع.
هل تسمعون؟ لم اتعرض يوماً واحداً للتحرش في الشارع. 
الرجال هنا ليست مسعورة. لا تبحث عن اللحم. بل تنظر إلي كإنسان. 
اعرف بالطبع أن التحرش يحدث أيضاً في الدول الغربية ، في أماكن العمل. لكن الويل له من يظن أنه سيفعل ذلك ويفلت من العقاب. هناك قوانين، وهناك وعي بوجود هذه المشكلة، وهناك سرعة في ملاحقة الجاني. 
في إسرائيل وهي قريبة منا اضطر رئيس الجمهورية للاستقالة لأنه تحرش بموظفات لديه. 
في اليمن منْ تعرضت لتحرش رئيس الجمهورية اختارت أن تهاجر. منْ يحميها في بلدٍ حاميها حراميها؟
ليس هناك قانون يحمي المرأة من التحرش في اليمن. 
تذكرت أيضاً كيف كان "التحرش" امراً معروفاً لا نتحدث عنه هنا. 
خزي يحدث ولا نتحدث عنه. 
وأنا إلى يومنا هذا لم اتحدث عن هذا الموضوع. لأنه لازال يؤلمني. كثيراً. 
لكني فرحت، والله فرحت، وأنا أقرأ أسماء ناشطات يمنيات معروفات مثل أفراح ناصر، وهن يتحدثن عن تجاربهن. عن أول حادث تحرش تعرضن له. 
وهند الإرياني تتساءل بشكل مباشر، "لم لا يتنقب الرجال"؟ كما تطالبوننا نحن النساء بالتنقب كي لا نفتن الرجل، سيكون عليه أيضاً ان يتنقب كي لا يفتننا. أحببت مقالها. ابرز العوار في المنطق الذي يتحفوننا به. 
يوم نكسر جدار الصمت نتحرر. 
قلتها من قبل. 
وكتاب "يحدث في الطريق"، والحملة التي يدشنها منذ أغسطس 2011، كسر ذلك الجدار، وقدم لنا في الوقت نفسه جيلاً ونوعاً جديداً من الناشطات والناشطين. 
فتيات واثقات قويات. وشباب واثق قوي. 
يقفن متحديات لمن يقول "هذا لا يجوز، هذا مخجل، هذا نصمت عليه، هذا لا نفعله". 
جيل جديد يقول لنا ان التغيير ممكن، نستطيع أن نحققه بأيدينا، بمواجهة ما يحدث، ثم رفضه والسعي لتغييره. 
مع هذا الجيل أضم صوتي.
أنا لم أتحدث يوماً عن التحرش الذي تعرضت له. 
لن ازعجكن بتفاصيله.
يكفي أن أقول، أنه حدث لي أيضاً.
وأن الوقت حان كي نقول له جميعاً: كفى. 
إلهام مانع 

وصلة كتاب: "يحدث في الطريق" 
https://docs.google.com/file/d/1XKenC0q-kwafFJK3z3701te-wtMp2xqwzw3RE3ECxd_8rXSo1TQM3dj_tmbc/edit?pli=1

معلومات عن حملة شوارع آمنة (من الحملة نفسها)
حملة شوارع آمنة لمناهضة التحرش الجنسي في الشوارع:
انطلقت الحمله في 16 اغسطس 2011 ,تعمل الحملة حاليا على أبراز قضية التحرش الجنسي في الشوارع على السطح وكسر قاعدة المحرمات في التحدث حول هذه القضيه التي تعاني منها 98.9% من نساء اليمن خاصة في العاصمة صنعاء. وسوف تستمر الحملة إلى أن تحقق أهدافها بأن يتم إصدار قانون يجرم فعل التحرش الجنسي في الشوارع ومعاقبه المتحرش سواء كان رجل أو امرأة. إضافة إلى الضغط على صناع القرار بنشر دوريات لشرطة الأداب في الشوارع خاصة في الأسواق. وتنفذ الحملة مبادرة كفاية وتعد بيت التنمية شريك تقني للحملة http://www.thedh.org