الجمعة، 23 سبتمبر 2011

إنسان حر 15

هل تذكران ما قلته مرة في مقال سابق، إن الدين ليس هوية.
لست مسلمة.
وهويتي ليست الإسلام.
الهوية أكثر تعقيداً من أن احصرها في الدين. تماماً كما أن الدين ليس هوية، الدين إختيار.
الدين إختيار.
قلت أيضاً أني اخترت أن أكون مسلمة.
هل تذكران؟
قلت اني اخترت ان اكون مسلمة، ولم أقل أني مسلمة.
وهذا يعني أنني إتخذت قراراً بالبقاء في الإسلام.
ولا أكتمكما سراً أني فكرت أكثر من مرة خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 أن اترك الدين الإسلامي واعتنق ديناً اخراً.
فإنتشار المد السلفي والتفسيرات الأرثوذكسية للدين الإسلامي، تحاملها على المرأة، إضافة إلى إصرارنا على دفن رؤوسنا في الرمال عندما يتعلق الأمر بالحركات الدينية المتطرفة ودعوتها إلى العنف (اعني الجهاد)، جعلني اطرح السؤال على نفسي: هل تريدين فعلاً أن يكون دينك الإسلام؟
سؤال مهم.
بطبيعة الحال، مجرد طرح السؤال بهذه الصيغة يعني ببساطة أن الجانب الروحاني المتعلق بالإيمان يظل هاماً بالنسبة لي.
لست مصنوعة من مادة فقط. هناك جانب روحاني في يتعطش إلى الإشباع، يبحث عن آفاق بعيدة،يعود منها إلى الروح، يناجيها ثم يدعوها إلى التأمل. لم يكن الإستهلاك يوماً أمرأ مشبعاً لي، تماماً كما أن الإستمتاع بالحياة الذي اعتبره واجباً على الإنسان، لا يمثل إلا جانباً من الحياة.
هناك شيء ما أكبر. أكبر مني ومنكما. وهذا الشيء الأكبر أسميه الله. غيري في اديان توحيدية وغير توحيدية يسميه بأسماء أخرى، لكننا جميعاً نبحث عن الشيء نفسه. نبحث عن معنى للحياة. وهناك من وجد هذا المعنى دون رب، فهنيئاً له. هذا حقه. هذا رأيه. اقبل به، دون إمتعاض.
بالنسبة لي، الله لم يمت. لم أقتله كما قتله غيري.
لازال حياً في وجداني.
لكن الله الذي اعدته إلى حياتي لا علاقة له بصورة الرب الذي تطرحه علينا الأديان التوحيدية بصورها الأرثوذكسية.
"رجل غاضب، وجهه متجهم، يكيل علينا اللعنات لأننا نحيا على وجه البسيطة". هكذا يصوروه لنا.
الرحمن الذي اؤمن به او بها (لم يقل احد أن الله رجل، ولذلك تمكن الإشارة إليه بصيغة المذكر أو المؤنث، مادمنا نعرف أن الإشارة إليه بصيغة المذكر مجازية) لايزيد عن قوة أكبر منا، قوة خير ومحبة، نور وسلام، ترمز للعدالة والمساواة.
قوة فينا، وقوة من حولنا، وقوة تنسج بنورها خيوط الكون معاً في وحدة واحدة.
هي نحن، ونحن هي.
وكلنا معاً نكون هي.
ووجهها مبتسم. تبتسم إبتسامة واسعة، محبة، ضاحكة، مرحة.
ثم تحتضننا بنورها، ورحمتها.
ليست بعباً.
-----
حسناً. أعود من جديد لأكمل ما قلته من قبل.
لأن الجانب الروحاني مهم بالنسبة كان مهماً أن أختار ديناً كي أشبع به إحتياجي.
لكني، كما قلت لكما، كنت أشعر بالإختناق من الدين كما يفسروه لنا اليوم.
يخنقني.
يمنع الهواء عني.
ثم يكتم على صدري حتى يغيب صوتي، وأتحول معه إلى إمعّة، لا تفكر، تقول سمعاً وطاعاً، لا لله، بل لمن يتحدثون بإسم الله.
لذلك فكرت في البداية أن أعتنق المسيحية في صورتها البروتستانتية المنفتحة (فكما تعرفان هناك أيضا حركات بروتستانتية متطرفة)، ثم مرت علي فترة فكرت فيها أن اتحول إلى البوذية، بإعتبارها فلسفة رائعة للحياة.
ثم قررت ان الأفضل أن لا أهرب إلى الحلول السهلة.
الأسهل أن أغير ديني. الأصعب أن ابقى في هذا الدين، الذي لا زلت احبه، وأًصر على أن إصلاحه ممكن. ولذلك، عندما يكتب إلى بعض القراء الأعزاء قائلين بغضب: "هذا هو الإسلام، إما أن تأخذيه كما هو أو أن تتركيه". فإن ردي ببساطة: "لا لن أتركه، لكني لن اقبل به كما هو".
إصراري على هذا الموقف يرتبط جوهراً بإدراكي للجانب البشري في الأديان. فكثير إن لم يكن جل ما نمارسه على أنه اوامر من الله لايزيد عن طقوس إبتكرها من آمن بالدين ثم تحولت مع الوقت إلى أصنام، وقف عليها حراس، سموا أنفسهم علماء وشيوخ، ثم قالوا: إركوعوا لها أو كفرتم.
بالتأكيد لاحظتما أن مجرد قولي أني فكرت أن اترك الإسلام وأتحول إلى دين اخر، فإن هذا يعني أني على قناعة أن من حق الإنسان أن يغير دينه إلى دين أخر.
من حق الإنسان أن يختار دينه.
عبارة بسيطة، اليس كذلك.
كونك ولدتَِ مسلماً او مسلمة ليس قدراً تستلم أو تستلمين له.
يولد الإنسان حراً.
وحريته تتبدى في مقدرته على إتخاذ القرارات. وهل هناك أهم من قرار إختيار الدين؟
مفهوم الإسلام الإنساني يحترم حرية الإنسان في إتخاذ قراراته.
هو لايقبل بفكرة أن المسلم لا حق له في تغيير دينه. لا يقبل بمفهوم الردة عن الإسلام.
والغريب أن "الردة" لا تستخدم إلا في حال إعتناق المسلم لدين أخر. لكن عندما يتحول مسيحي أو يهودي أو هندوسي إلى الإسلام يتحول نفس الفعل، نفس القرار، بقدرة قادر إلى"هداية" و"رجوع" إلى الحق.
إستخدموا نفس المعايير التي تتعاملوا بها بين بعضكم مع غيركم، وستصبح الأمور أكثر وضوحاً.
أدري أن كل الأديان تتعامل مع تحول الأخرين إلى صورتها من الدين بنفس المنطق. هي أيضاً تقول إنها "هداية".
لكن ديننا هو الوحيد الذي يطبق عقوبة الإعدام على من يفكر في تغيير دينه الإسلامي.
الإعدام!
نقتل إنسان لأنه قرر أن يختار؟
يقول ببساطة إنه لا يؤمن بالإسلام! فنصر عليه، "بل تؤمن غصباً عنك وعن أبوك كمان".
ألا يبدو ديننا ضعيفا مادام يمسك بالسيف على رقابنا كي نظل فيه؟
ثم أي إيمان سيكون إيمانه إذن؟
حكم الردة جاء في فترة حروب "الردة"، خلال فترة حكم الخليفة أبو بكر الصديق. وهي لم تكن حروب ردة، بل كانت حرب بين ممثلين لدولة جديدة، وجماعات داخل هذه الدولة ارادت ان تحتفظ بالزكاة لمناطقها. دولة جديدة تريد ان تفرض سلطتها على مناطقها. فخرجت بحكم يقتل من ثبتت عليه تهمة "الردة". حكمٌ أعتبره باطلاً.
مثل هذا الحكم لا ينتمي إلى القرن الواحد والعشرين.
مثل هذا الحكم لا يحترم حرية الإنسان.
وحرية الإنسان هي جوهر أي إيمان أو إقتناع بدين.
حرية الإنسان هي جوهر الإسلام الإنساني.
وحرية الإنسان هنا مطلقة، مادامت لا تتعدى على حقوق الغير.
وتفسير هذه العبارة تحديداً يظل هاماً. خاصة وأننا نفصل معني الحرية عادة على مقاس "أهوائنا".
وأنا أريدها أن تكون واضحة.
ولذلك أكمل معكما هذا الحديث الأسبوع القادم.

الجمعة، 16 سبتمبر 2011

للمرة الألف، الهوية إنسان! (14)

كم مرة رددتها عليكما؟ ولعلكما تعبتما من كثر سماعها. أن الهوية إنسان.
الهوية إنسان.
للمرة الألف: الهوية إنسان.
وبعضكما سيتساءل عن سبب تكراري للعبارة، وإصراري عليها.
بعضكما سيقول متعباً: "فهمنا، تقولين أنك إنسان أولاً. وبعد؟"
لكن للهوية تداعيات.
للهوية نتائج.
والهوية التي سنختارها في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخنا، هي التي ستحدد مسار المستقبل. هي التي ستحدد ما إذا كانت ثورات شبابنا وشاباتنا ستحقق لهما المستقبل الذي ضحيا بإنفسهما من أجله، أم لا.
أسألكما سؤالاً: ما هو جوهر الرسالة التي يصر عليها الإسلام السياسي؟
عندما يبدأ في الحديث إليك أيها الشاب، أيتها الشابة، على أي وتر يلعب؟
هل يقول لكما: انت مصري، مصرية؟ يمني، يمنية؟ تونسي تونسية؟ ليبي، ليبية؟ هل يقول لكما: أنتما إنسان؟
لا.
سيبدأ بالحديث إليكما بوضع فاصل بينكما وبين "الغير".
سيقول لكما إن الحب جوهر رسالته، لكن مع الوقت ستتبدى ملامح هذه الرسالة وسيكون من الجلي أن الحب ليس لُبها. بل التمييز ثم الكراهية: لا تقول "مصري". الهوية ليست وطنية. لا تقول "إنسان". الهوية ليست إنسان. بل قل "الهوية إسلامية".
ورجوتكما أن لاتفهماني خطأً. جوهر الإسلام الإنساني هو إحترام حرية الإنسان وإرادته. وإذا اراد هذا الإنسان أن يحدد الدائرة الأولى من هويته في الدين، فهذا حقه، طالما أنه لا يرفض غيره او يؤذيه.
لكن رسالة الإسلام السياسي، غير ذلك.
رسالة الإسلام السياسي، تقول لكما: أنتما صنف، وغيركما صنف اخر. فلا تختلطا بالغير. تجنبا هذا الغير، ثم لا تأكلا معه على طاولة واحدة. حتى في التحية التي يتبناها كعنوان لرسالته، يفصل بينكما وبين "الآخر"، أياً كان هذا "الآخر".
هل لاحظتما مثلاً موضوع تحية الإسلام التي تصر عليها جماعات الإسلام السياسي؟
جماعات الإسلام السياسي تصر على التحية بعبارة "السلام عليكم".
ولا اكتمكما سراً أني كنت دائماً أحب هذه التحية. ما أجمل السلام تحية، اليس كذلك؟ لكني انتبهت وأنا في السادسة عشرة، بعد عودتي من المغرب، إلى حديث "الداعيات" من الأخوات “المسلمات“، ثم أكمل على حديثهن منهاجهنا التعليمي الديني في اليمن، ذلك الذي صممه الشيخ عبدالمجيد الزنداني، الأب الروحي لإسامة بن لادن، وأستورده من قلب الفكر الوهابي.
أقول إنتبهت إلى التوصيات التي قيلت لي عن تحية الإسلام:" ‘السلام عليكم‘ تُقال للمسلمين، وللمسلمين فقط!!"
وعندما إرتفع حاجباي متسائلين: "وماذا عن غير المسلمين؟"، جاء الرد: "لاتقال لغير المسلمين!!" (على فكرة هذا التفسير للسلام والتحية يُدرس في مناهج المدارس الإبتدائية للمملكة السعودية أيضاً".
أعود وأكرر السؤال، "لماذا؟"
أووف. كم يكرهون هذا السؤال. هم لا يحارون جواباً. بل يتعمدون عدم الرد، كي لا تنفرا من رسالتهم.
لماذا لا تقال لغير المسلمين؟
ببساطة شديدة لأن "عهد السلام" هو مع "المسلمين"، لا "غير المسلمين".
بكلمات أخرى، هم يقولون "السلام عليكم" للمسلمين، ولغير المسلمين يحتفظون بتحية أخرى في قلوبهم: "والحرب عليكم، فلا سلام لغير المسلمين".
وإذا كانت تحيتهم، تفصل بين البشر، وتمنح السلام لمن يؤمن "بالدين كما يؤمنون به"، وتمنعه عن "غير المؤمن"، فبالله عليكما، أية دولة ستبنيها هذه الجماعات؟ واية حقوق ستمنحها للمسلمين وغير المسلمين؟
لا تستهنيا برسالة هذه الجماعات السياسية الدينية.
فهي والظلام صنوان.
لكنها تستخدم الدين غطاءاً كي تصل إلى السلطة. وتفسر الدين على هواها، ثم تقدمه لنا مغلفاً في ورق سوليفان، وتقول لنا: "هذا هو "كلام الله" ومن يعترض ويعارضنا فإنه "ضد الله".
والله أعزائي، عزيزاتي، لا دخل له في الموضوع.
الله هم الذين يقحموه في الموضوع ، كي يرهبوننا.
لذلك اقول لكما إن للهوية تداعيات. للهوية نتائج.
إذا كانت الهوية "دينية" كما تصر الجماعات الإسلامية السياسية، فإن الدولة التي سيقيموها ستكون "دينية" هي الأخرى.
ومادام أساسها ديني، فإن مباديء المواطنة وحقوق الإنسان، تلك المباديء الأساسية للدولة الحديثة المعاصرة، لن تكون جزءاً منها.
لن نكون جميعاً مواطنون ومواطنات متساويين أمام القانون، "بغض النظر عن الدين والجنس واللغة والعرق واللون".
لن نكون إنسان أمام القانون، بل هويات دينية طائفية عرقية جنسية.
ودولتهم ستقوم على تقسيم تراتيبي: المسلم هو مواطن من الدرجة الأولى، "المسلم السني" في الدولة السنية الإسلامية، و"المسلم الشيعي" في الدولة الشيعية الإسلامية. ثم تأتي بعد ذلك درجات أخرى من المواطنة، وكل درجه لها حقوق ومسؤوليات تختلف عن الأخرى. ولذا فإن العدالة، العدالة لن تكون جوهرها. تماماً كما أنها لن تحترم إرادة الإنسان وحريته.
لا تنسيا كيف وعدت حركة حماس عندما استولت على السلطة في قطاع غزة أن تحترم حق المرأة في عدم إرتداء الحجاب، ثم نست وعدها، واصبح الحجاب الآن فرضاً. تماماً كما فعلت إيران بعد أن إستولى الإسلاميون على ثورتها.
في البداية يؤكدون إحترامهم لحرية الإنسان، ثم ينقلبون بعد ذلك ويقولون، "لاحرية فيما نص عليه الدين". و"الدين" هنا هو "تفسيرهم" لهذا الدين، لا أقل ولا أكثر.
ثم لاحظا مثلاً الضجة التي اثارتها الجماعات الإسلامية في مصر عند الحديث عن "حرية الدين". يجعر البعض منهم في وجوهنا قائلاً: "يعني إيه حرية الدين؟ طب لو واحد قال إنه بهائي، هنحترم دينه كمان؟"
أيوه. هنحترم دينه كمان. هو خيار وفقوس؟ نحترم حرية البعض، وننتهكها مع اخرين؟
حرية الدين، حق مطلق. لا نقُصُ منه ونفصل فيه على مقاس أهواءنا "الدينية".
هو حق مطلق.
بهائي، درزي، علوي، مسلم، مسيحي، يهودي، بوذي، هندوسي، ملحد. لا فرق.
لافرق.
الهوية إنسان.
ومادامت الهوية إنسان فإن الدولة التي تقوم على هذا المبدأ، تلك التي تحترم مفاهيم الإسلام الإنساني، ستقوم على مبدأ الفصل بين الدين والدولة. علمانية هي. ولا شيء مخزي في هذا المصطلح. تركيا دولة علمانية. فهل تعتبرونها وصمة عار؟
الهوية إنسان، ولذا فإن الدولة التي تقوم على هذا المبدأ ستعمد إلى سن دساتير وقوانين، تحترم المواطن لديها، رجلاً كان أو أمرأة، بغض النظر عن دينه،ومذهبه، لغته، عرقه، او لونه، وتعامل كل أبناء وبنات الوطن على قدم المساواة. مواطنون ومواطنات. لافرق بينهم في المواطنة.
المواطنة واحدة. مقاس واحد يرتديه كل من يحمل هوية "مواطن".
الهوية إنسان.
للمرة الألف الهوية انسان.
كي نحترم الإنسان في الوطن الذي نبحث عنه.
كي نحترم إرادة الإنسان في الوطن الذي نخرج إلى الشوارع من أجله.
كي نحترم حرية هذا الإنسان في الوطن الذي نحلم به.
كي نحترم كرامته.
الهوية: "إنسان أولاً"، ثم كن بعد ذلك ما تكون.
لأنك إذا كنت إنسان أولاً سترى الإنسان فيمن حولك أولاً. لن ترى دينه، لونه، نوعه، طائفته. بل سترى الإنسان فيه، وإذا رأيته ستكتشف المحبة التي فيه كما هي فيكَ وفيكِ.
الحب.
الحب، لا الكراهية.
----
هذا هو العنصر الأول من الإسلام الإنساني: الهوية إنسان.
العنصر الثاني الذي يقوم عليه الإسلام الإنساني هو "العقلانية، والحرية".
احدثكما عنه الأسبوع المقبل.

الثلاثاء، 6 سبتمبر 2011

إسلام "جديد" 13

"أكتب إليك، لأنك، وكل الكتاب المتنورين، تتحملين قسطاً كبيراً من المسؤولية فيما أعيشه الآن من تشرذم".
هكذا إستهل شاب، لم يكمل بعد الثامنة عشره من عمره، رسالته إلي.
يقول "أعيش هذه الأيام فترة عصيبة من حياتي. فبعد أن عكفت على قراءة بعض الكتب عن الأديان، ودراسة الكتب السماوية، وصلت إلى حقيقة أن الأسلام مثلاً، الذي رضعته منذ طفولتي كان ديناً بشرياً، عكس ما علمونا في البيت والمدرسة".
ويكمل" الآن انا لا أستطيع البوح بأفكاري لأحد... وأصوم مكرهاً".
"تعرفين كم هو صعب أن تعيش هكذا في محتمع لا يقبل أبدأ فكرة الإختلاف".
.."ولو أفصحت عما بداخلي... سيرجمونني، أو يقتلونني، إبتداءاً من البيت".
"اشعر بغرابة شديدة. أصبحت عنصراً شاذاً وسط جيش من الناس المتشابهي الأفكار".
---
الغربة في الوطن. لم اعرف اقسى من هذا الشعور.
تشعر أنك وحيد.
وتشعرين أن صوتك غير مسموع.
لا أحد يفهمك.
كأنك تتحدثين بلغة من كوكب بعيد قصي ... غريب.
وتصرخ بأعلى صوتك، تكاد حنجرتك تنفجر، ورغم ذلك لا يسمعك من حولك. كأن صوتك أخرس. كأن صوتك بلا صوت!
وصوت من حولك يقرع كالطبول على أذنيك، يردد اناشيد مكررة، بنفس النغمة، بنفس الكلمات، بنفس المضمون. ثم يلقنها لك، يدخلها في حنجرتك، يحشرها بين رئتيك، ثم يمسك بعنقك يصر عليك أن تغني معه... شئت أم أبيت. لا يهم. عليك أن تطيع. عليكِ أن تطيعي. عليكما أن تغنيا مع القطيع.
وكنتُ دوماً غريبة.
هادئة كالبركان. يغلي من داخله، لكن حممه لا تبدر من فوهته.
ولذا شعرت بالألم يعتصر روحي وأنا اقرأ رسالة الشاب المفكر. ذاك الذي قرر أن لا يكون نسخة مستنسخة. ذاك الذي قرر أن لايكون جزءا من قطيع.
بالله عليكما، هل نبدو أقوياء أم ضعفاء عندما نصر على من يختلف معنا، أن يكون كما نحن، رغماً عن أنفه.
هل نبدو أقوياء، أم مهترئين خائفين؟
تماماً كُحكامنا المستبدين. يمسكون بتلابيب أعناقنا بالقوة، لأنهم يدركون أن حريتنا ستكلفهم كراسيهم.
وبنفس النسق، حرية التفكير، حرية الإختلاف تبُشر بإنهيار المؤسسة الدينية التقليدية و قراءتها للدين التي تنتمي بجدارة إلى القرون الوسطى.
----
وهي، الصديقة الراقية، قصت علي فترة عصيبة مرت عليها وهي في وطنها سويسرا. فترة إحتاجت فيها إلى السكينة. إلى الله ومحبته. فكانت تذهب إلى بيوت الله من الكنائس. تذهب إليها، تضيء شمعة، ثم تجلس فيها. تبحث عن هدوء الروح... تبحث عن سكينة النفس.
قالت لي "كنت دوماً اشعر بغصة، غصة حارقة. لأني وأنا المسلمة، لا أشعر بأن المساجد المتواجدة لدينا هنا، تقبل بي كما أنا. تقبل بي كما أنا. إما أن أكون على صورتها، أو لا تقبلني".
"وأنا أبحث عن مسجد يقبل بي كما أنا. يقبل بي كإنسانة".
"أبحث عن ذلك المسجد. وأريد ذلك المسجد".
وتكمل"وفكرت فيك. تمنيت لو تمكنا من بناء مسجدٍ، مسجد جديد. يقبل بنا كما نحن. وتكونين فيه إمامة".
أما أنا فتأملت فيما قالته.
كان حلماً، ولا زال حلمي. أن نبني ذلك المسجد. ولن يفرق كثيراً إذا كان الإمام رجلاً او إمرأة. المهم أن يكون مسجداً يصلي فيه الرجل والمرأة معاً.
المهم أن يكون مسجداً يقبل بالإنسان كما هو.
المهم أن يكون مسجداً يحترم آدميتي، ثم حق الإنسان.
مسجد محبة.
مسجد سلام.
مسجد للإنسان.
----
بناء ذلك المسجد يحتاج إلى إسلامٍ جديد.
نعم.
إسلام جديد.
فالدين الذي أراه اليوم لا يحترم آدميتي. تماماً كما أنه لايقبل بالغير مع إختلافه.
ولأني أحب الله، وأحب الإنسان، فأن الدين الذي ابحث عنه هو دين لا يقصي الغير، ولا يكره الغير. تماماً كما أنه دين لا يدعو إلى الجهاد وقتل الأخرين بإسم الله. كالحروب الصليبية التي كانت تقتل بإسم الله في القرون الوسطى، ثم إستفاق بعض من كان يدعو إليها، فخرج إلى القرن الواحد والعشرين.
هو إسلام جديد. أقول "جديد" وأصر عليه.
لأن الترقيع والتجميل الذي دأبنا عليه منذ القرن التاسع عشر لم يفلح، ولن يجدِ.
إسلام لا يؤمن بالمسلمات. بمناطق محظورة على التفكير. ينظر إلى تراثنا بإحترام لكن مع قدر كبير من النقد. ثم يجرؤ على رفض الكثير منه، والبناء على بعض منه.

يدرك أن الإنسان في حاجة إلى الروحانية.
لكنه يدرك أيضا أن الدين إنما وجد من أجل خير هذا الإنسان.
ولذا فإنه يقبل بالإنسان كما هو.
يحترم حرية هذا الإنسان.
ويحترم قراره.
أنا أسميه إسلاماً إنسانيا.
هل تذكران؟
كنت قد وعدت بإكمال سلسلة من المقالات عنه، لكني توقفت في الصيف بسبب ظروف العمل.
فأعذراني.
لكني لم أنس.
لم أنس الوعد.
فالظرف الذي نعيشه اليوم في بلداننا في المنطقة يفرض علينا أن نبني التغيير الذي نشهده على أسس مدنية إنسانية تسمح بالإختلاف، ثم تسمح بالتعددية، كي نتمكن من بناء نظام ديمقراطي. كي نتمكن من خلق المستقبل.
والمسألة ببساطة تتلخص في عبارة واحدة: "الإصلاح السياسي لا يحدث دون إصلاح الدين. الإثنان يأتيان معاً."
ولذا فإن الصمت ليس خياراً. الصمت ليس طريقاً. الصمت تهلكة.
ولذا أكمل معكما حديثي عن العنصر الأول المكون للإسلام الإنساني، "الهوية إنسان".
موعدنا الأسبوع المقبل.