الاثنين، 21 فبراير 2011

صباح الخير يايمن، صباح الخير ياوطن!

إتصل بي أخي. سألني: "ماذا كتبت عن اليمن؟" فحرت جواباً.
لم أكتب عن اليمن حتى الآن. لا لعدم رغبة، بل لإن الكلمات تأبى أن تطيعني. ألجأ إلى الكمبيوتر، اضع اصابعي على لوحة المفاتيح، ثم أنتظر. أصابعي تنظر إلي من خلف، تنتظر هي الأخرى، لكني أتجمد. فتكف هي عن التوقع، ثم تهمد. فأعود لأتابع الأخبار، أقرأ وأسمع وأشاهد.
رأسي حبلى بالأفكار، لكنها ترفض أن تلدها في كلمات. كأنها تغيضني.
مخاض. مخاض. مخاض.
و لست وحدي في هذا المخاض.
اليمن أيضا تعيش واقعاً قد يتمخض عن جديد.
شيء ما يتبدل، شيء ما يتغير، شيء ما ينبثق من ظلام دامس. لكني أخشى أن اصدق. أخاف أن أصدق كي لا تطعنني الخيبة من جديد. وانا تعبت من الخيبات. وتعبت اكثر من اليأس.
هل تريدون الحق؟ كنت قد فقدت الأمل. منذ زمن. فقدت الأمل في اليمن. قراري بالهجرة من اليمن كان مؤشراً على فقداني للأمل.
بحثت دوماً عن الوطن في اليمن، لكن وطني كان يخنقني بمرضه. لأن وطني مريض، مريض.
ولذا قلت لنفسي يوماً "كفى"، "كفى، مافائدة أن تحرثي في أرض بور. ستنهال عليك السكاكين، وسيكون عليك أن تقرري إما أن تكوني جزءا من النظام أو ضده". فقررت أن أغادر ولا أعود. سافرت وأنا أدري أني لن اعود: "وداعاً ياوطن، وداعاً بلا رجعة."
ولم أشعر يوماً أن قراري كان خاطئا. لم أشعر بالندم. لأني تمكنت من التنفس كما أريد، و أن أحيا بتعمد، أكون، ولا أساوم. أضع رأسي على الوسادة وأنام ملء أجفاني، مطمئنة الضمير. وفي الواقع إشتريت نفسي وراحة بالي بالرحيل. لأني لو كنت بقيت كنت سأكون جزءا من النظام، ولكي تكون جزءا من النظام عليك أن تكون فاسداً. أو على الأقل أن تكون فاسداً "إلى حدٍ ما". وإلى "حدٍ ما" هذه كانت تقتلني. لا أحتملها. او كنت سأنقلب ضد النظام، وحينها كنت سأحيا والجمر وسادي. ولحمي كان حينها غضاً، لا يبحث عن العراك.
هذه الأيام بدأت أكتشف أن هناك طريقاً ثالثاً يمكن للإنسان أن يختاره. ليس أقل صعوبة من الخيار الثاني.
طريق إختاره شبابنا، طريق إختارته شاباتنا.
طريق "ان تبقى وتبحث عن وطنك في وطنك".
طريق "أن تصر على إسترداد وطنك ممن إستلبه وحوله إلى إرث يستبد به".
وطريق "أن لا تقبل بأنصاف الحلول".
"سنكون" قالها لي أحد هؤلاء الشباب.
"سنكون".
ولم افرح يوماً بكلمة مثل هذه الكلمة التي خرجت من رحم الأمل. فرح أغرق عيني بالدموع، لأنها لخصت برونق بديع ما يريده شباب وشابات اليمن.
شبابك ياوطن كف عن اليأس. شاباتك قررن أن يحلمن. يريدون وطناً يكون لهن وطناً. يريدون أن يكونوا، أن يكن.
فأخجلونا نحن من بدأ الشيب يتسلل إلى قلوبنا. اخجلونا نحن من ركنا إلى التحسر. أخجلونا نحن من وجد الأمل مذبوحاً في صدره.
-------
اليمن ليست تونس ولا مصر.
الكثيرون يرددون هذه العبارة، وأنا لن أجادل فيها. فهي موضوعياً صحيحة.
اليمن كدولة لا زالت في حالة "تجربة"، وهي إلى يومنا هذا "لم تتبلور بعد". ليس لديها تاريخ في الحكم المركزي، ومنقسمة مناطقياً وطائفيا. وتحكمها اقلية قبلية عشائرية.
ولذلك فإن المطالبة بإسقاط النظام قد تتمخض عن عدة سيناريوهات محتملة. أولها إنقسام اليمن، ثانيها حرب أهلية، وثالثها "أو".
إنقسام اليمن وارد. لأنه إذا كان مطلب إسقاط النظام قادر أن يوحد القوى المعارضة على المدى القصير، فإن اهداف هذه القوى من إسقاط النظام قد تختلف. وبعض هذه القوى قد لا يرضى بأقل من الإنفصال.
والحرب الأهلية واردة هي الأخرى، لإن اليمن مدجج بالسلاح حتى العنق، والدولة طابعها قبلي، وإلإنقسام القائم بين صفوف الأقلية الحاكمة كلها عوامل يسهل أن تشعل فتيل أزمة سرعان ما تتفجر إلى حرب أهلية.
السيناريو الثالث هو "أو".
و"أو" هذه يؤمن بها شبابنا وشاباتنا.
"أو ننسى إنقسامنا، ونقرر أن نبني وطناً موحداً، يحمى أبناءه وبناته، يكون لهم ولهن وطناً. ونؤسس لدولة، دولة مدنية ديمقراطية عادلة، تخلو من الفساد، تقوم على مفاهيم المواطنة وتحترم حقوق الإنسان. دولة مؤسسات يقف فيها الجميع متساويين أمام القانون."
"أو" هذه هي سيناريو "الحلم".
شبابنا يحلم. شاباتنا يحلمن.
يؤمنون ويؤمنَّ بهذا الحلم.
ويريدون أن يبعثوه حياً في الوطن.
وأن تحلم يعني أن تصمم على الحياة.
غيري كثيرون سيسخرون من سيناريو الحلم هذه.
من "أو".
ولعلهم على حق!
لكني تعبت من اليأس كما قلت لكم. وأريد أنا ألأخرى أن أحلم. أحلم بوطني من جديد.
ولذا سأضع مخاوفي جانباً، واسكت عقلي قليلاً، وأقف مع شباب وشابات اليمن، احلم مع المستقبل، ولن أقول أكثر من جملتين: "صباح الخير يايمن، صباح الخير ياوطن".
إلهام مانع

الجمعة، 11 فبراير 2011

مصر على مفترق الطريق!

"الثورات تُسرق! يبدأ بها الحالمون، ثم ينقض عليها المنتهزون، ثم قد تتحول إلى فاشية، فيأتي يوماً نتحسر فيه على أيامنا هذه!"
قالها لي صديقي المصري العزيز. صديقي وهو شقيقي، ورغم ذلك نختلف أحيانا في المواقف والأراء.
إستمعت إليه بتمعن. لا لشيء إلا لإنه في كثير من المواقف اظهر بُعداً في النظر، وعادة كنت اجد ان ما قاله فيه كثير من الصواب. ما قاله في كثير من الأحيان تحقق.
إستمعت إليه لذلك وأنا أختلف معه. وفي الواقع لم اختلف معه في حياتي كما في تلك اللحظة. لكن ما قاله حرك نبضاً في داخلي.
كم منا إلتفت إلى أعماله في الأيام الماضية؟ عن نفسي، وجدت نفسي روحاً وفكراً في مصر. قلبي معها. وكما قلت لزوجي لم أشعر بالجزء المصري في قوياً كما في هذه الأيام. ادمدم اغنية ام كلثوم "مصر التي في خاطري"، ودموعي تنفر من عيني. ومرت علي لحظات تمنيت فيها لو كنت في ميدان التحرير مع هؤلاء الشباب والشابات.
من يتابع موقعي على الفايس بوك ورسائل التويتر التي اكتبها يدرك أني اتخذت موقفاً منذ البداية بدعم ثورة شباب وشابات مصر. لم أتردد لحظة. بل صدقت لا وزلت اصدق أن دافعهم هو محبة مصر ورغبتهم في التغيير. يريدون وطناً يستحق أن يحمل إسم مصر. يحترمهم وحقوقهم. مصر، اعرق دولة في التاريخ، وطن لهم ولهن. وطن كل أفراد الشعب، مسلمين مسيحيين يهوديين بهائيين ملحدين، رجال ونساء. وطنهم جميعاً. لا وطن قلة نفعية فاسدة.
وزاد إقتناعي وأنا أرى بعض من قبس النور يتوهج ضمن الأحداث.
صديقة لي عزيزة شاركت في تظاهرات التحرير المليونية في الثلاثين من يناير الماضي رسمت هذه الصورة لي: "كنا نمثل كل اطياف مصر، غني و فقير، رجل و إمرأة، مسلم و مسيحي و غير ذلك، البواب وخريج الجامعة الأمريكية، وعندما غنينا النشيد الوطني- بلادي بلادي لك حبي وفؤادي - أقشعر بدني، وبكيت، ولم أكن وحدي".
ثم صورة قداس الأحد نظمه مصريون مسيحيون في ميدان التحرير، والمصريون الأقباط يحمون ظهور المصريين المسلمين وهم يصلون، ثم نساء ورجال يصلون معاً. لحظة من التاريخ جمعت الإنسان المصري بتعدديته ووحدته على هدف واحد. يريدون تغيير النظام.
ولذلك إنبعث الأمل أن يخرج من رحم هذه الثورة تغيير يؤكد على ديمقراطية الدولة، مدنيتها، وإحترامها لحقوق المواطنة لكل أفراد شعبها.
أليس هذا ما نريده من أوطاننا؟ أليس هذا ما نكتب وندافع عنه؟
لكن صديقي يتابع ما يحدث بقلق. بتوتر. نعم يتابع ما يحدث وهو وجل.
ورجوتكَِ أن لا تفهماه خطاءاً. لأن صديقي وهو في مصر هو روح مصر. هل تسمعاني، هو روح مصر. يحبها كما لو كانت هواءه الذي يتنفس. هي دمه الذي يجري في عروقه. مصري معجون بطين مصر.
ورغم ذلك كان متحفظاً.
قال لي: "تمر علي لحظات حالمة، أهمس فيها لنفسي، ياريت، ياريت يخرج من ده كله دولة ديمقراطية، تحاسب الفاسدين، وشرطة تدافع عن الناس... وتلاقيني بأحلم معاهم. ثم بعدها بثانية أتشاءم. التغيير كلنا موافقين عليه. بس تغيير من ماذا وإلى ماذا؟ وإزاي؟ وفين الرؤية لهذا التغيير؟".
صديقي يتساءل كيف يمكن أن يحدث تغيير في غياب قيادة فعلية لهذه الثورة. قيادة تضع مصلحة مصر ديمقراطيتها ثم مدنيتها والحريات المدنية على رأس أولوياتها، وتفاوض السلطة عليها.
وإذا كنت أنا ارى الومضات من القبس فيما يحدث، يفزع هو من بعض المواقف التي لا تعبر عن بعد رؤية ولا مقدرة على إدارة دولة:
شاب يعتبر ان خراب السياحة المصري "ليس مهماً" لأنها "لا تفيد سوى فئة قليلة".
"المصدر الثاني لدخل مصر"، يقول صديقي، "ليس مهما؟"
أخر يعتبر أن إقفال قناة السويس ممكن "ماهي الناقلات الأمريكية هي التي بتمر فيها". قناة السويس الشريان الحي للنقل البحري!
"التغيير كلنا موافقين عليه" يصر صديقي. "بس كل ما يغذونا به هو شعارات بدون ضمانات. وإذا كانت الضمانة من الناس. فالناس اللي هايجة هي اللي بتخوفني".
"الناس اللي هايجية هي اللي بتخوفني".
"لإن الهياج لا يمكن أن ينتج عنه دستور يكون مدني ديمقراطي". يقولها وصوته يرتعش.
هل بدأتما تتشائمان كما أنا من حديث صديقي؟
أنا أغص بالفعل من حديثه. لكني أجد ان ما يقوله فيه منطق. لأن اصعب الأشياء هو أن تدُخل قدراً من العقلانية والمنطق في مسار الأحداث عندما تحدث الثورات.
وثورة مصر كانت ضرورية. هذا لا شك فيه.
لأن الأوضاع كان لا يمكن أن تستمر كما كانت عليه. جمود سياسي تشعر به كما لو كان النظام قد تحنط في تابوت، يكذب الكذبة ويصدقها، ثم يستغرب أن أبناءه وبناته لا يصدقون. وتفاوت في توزيع الثروات ثم فساد وبطش بالحريات ورغبة في فرعنة النظام وتوريث السلطة. كل هذا كان يجب أن يتوقف. وقد تمكنت الثورة من إيقاف توريث السلطة فعلاً. لكن هل ستتمكن من تغيير النظام وبصورة تتوافق مع تطلعات من أطلقوا ثورة الفايس بوك؟
صديقي يقول لي "إن مأساة الشعارات الجميلة أنها لا تؤكل عيش". وأنا أرد عليه "إن الإنسان إذا لم يحلم بالتغيير سيختنق ثم يموت".
وكلانا متفقان على أن الهدف هو مصر، أن تكون وطنا لأبناءها وبناتها. ثم نبراساً للتنوير من جديد.
ولأننا متفقان على الهدف إتفقنا أيضاً على العبارة التالية:"كي يحدث التغيير نحتاج إلى العقلاء من شعب مصر، كي تصبح الثورة فجر مصر الجديد".
إلهام مانع (وصديقها)