الأربعاء، 11 أغسطس 2010

كيف أؤمن بالله؟

أردت الإستهلال فجاءني الخبر، فِقدٌُ جديد: وفاة المفكر الجليل الدكتور أحمد البغدادي.
يالله، كأن المصائب تتلاحق، نختنق بالأسى ونحن نلهث من وراءها.
"أبواب الحزن مشرعة"، قالها لي الصديق.
ومعه حق.
لكن سفنية التنوير تمضي. تحمل فكر هؤلاء الأجلاء، نصر حامد ابو زيد وأحمد البغدادي، ثم تمضي إلى الأمام. فلا يأس حتى مع هذا الحزن الذي ينز من قلوبنا.
تعلمت على يد الدكتور احمد البغدادي في جامعة الكويت.
معه ترسخت الكثير من المبادىء التي ترعرت عليها في كنف أبي: „ولد الإنسان حراً، وحريته في قدرته على الإختيار“.
أذكر اول عبارة قالها لنا - نحن طلابه وطالباته في مادة الفكر السياسي الإسلامي: "هذه المادة تهدف إلى إيصال المعلومة التالية: أنه لا وجود لفكرٍ سياسيٍ إسلامي!"
نظرت إليه يومها مندهشة متفكرة وقلت لنفسي مبتسمة: "هذه بدايةٌ مختلفة."
وكان مختلفاً بالتأكيد. وكم هو فخر أن يكون الإنسان مختلفاً في زمننا هذا.
أحببت هذا الإستاذ الجليل، فكره العقلاني المتمرد، وطريقته الحرة في التعليم والتدريس. وأحترمته. وأدين له بالكثير.
فعزائي لإسرته أولاً، وللعقلاء في الكويت ثانياً. لأن غيرهم سيشمتون، وهو متوقع منهم. فمن آمن بالكراهية لا يعرف المحبة، يدلف إلى الظلام، خوفاً من النور، ومن جوفه يصرخ بالمقت. وعن هذا الفكر أتحدث طوال الوقت. وفي مواجهته أطرح فكرة الإسلام الإنساني.
---
الله المحبة. قلتها لكما مرة.
هكذا استشعر وجوده، في، في داخل الإنسان، محبة.
نور ومحبة.
ولذا تجداني انفر من صورة الله التي يروج لها فكر الإسلام السياسي و الإسلام الارثوذوكسي بشقيه السني والشيعي. أنفر من هذه الصورة، لا بل ارفضها.
فالرب الذي يدعو إلى القتل، الذي يزرع الرعب في قلبي كي أؤمن به، الذي يبطش بالبشر، والذي يميز بين البشر، يفضل مجموعة على اخرى، الله الذي يعدل عندما يريد، والذي ينتظر الزلة منا كي ينزل علينا اشد انواع العقاب، ليس رباً.
ليس رباً.
بل تجسيد لخيال بشرٍ مريض، بشر يكره نفسه وواقعه، فيدعو إلى كراهية غيره، ثم يقول الله يكره.
ولذلك، لو كان الله هكذا فعلاً لما آمنت به.
دعوني أكرر هذه العبارة لأني قصدتها كما قلتها: "لو كان الله هكذا فعلاً، لن أؤمن به، بل سأكفر به".
لأن الصفات التي نلحقها بالرحمن يجب، اقول يجب لا حبذا، يجب ان تكون خيره، محبة، عادلة، منصفة.
الرحمن لذلك هو المحبة، الخير، وهو عادل، لا يميز بين خلقه، و يحبهم.
اتذكر حكاية قصتها علي سيدة كويتية تعرفت عليها خلال رحلة بحث ميدانية قمت بها في الكويت في عام 2008.
كانت تحيا حينها مع أسرتها بعد إنفصالها عن زوجها، هي وأبنها.
قالت لإبنها يوماً أمام افراد من عائلتها: "لا أريدك أن تخاف من الله، اريدك ان تحبه." فتعرضت إلى إنتقاد شديد من إسرتها:"ما هذا الذي تقولينه لإبنك؟"، جاءت ردة فعلهم عنيفة.
السيدة تنتمي إلى إسرة شيعية. وانا اشير إلى إنتماءها المذهبي لا لشيء إلا للتدليل على أني لا اقصد مذهباً محدداً عندما أنتقد الفكر الديني في صوره المتعددة التي نراها اليوم وتعامله مع الله، الكون، والحياة من بعده.
تساءلت وأنا استمع إليها عن سبب إنزعاج افراد اسرتها من رسالة هي في الواقع روح الإيمان.
أين المشكلة في أن يحب ابنها الله، وأن لا يخافه؟ أين المشكلة فعلاً؟
أنا أحب الله.
ولا أخافه.
كيف اخافه وأنا احبه؟
ثم كيف أخافه وهو، لأنه رب، لا محاله سيحب خلقه، أياً كان هذا الخلق.
لكن ليس هذا هدف فكر الإسلام الإرثوذوكسي بشقيه السني والشيعي، أو فكر الإسلام السياسي. ليست المحبة هدفهما. اليس كذلك؟
دققا قليلاًَ وستجدان ان هدف هذين النوعين من الفكر الديني لا علاقة له من قريب او بعيد بفكرة أن نؤمن بخالق او قوة أسمى.
ليس الإيمان هو الهدف. والمحبة أبعد ما تكون عن هذا الإيمان.
بل الطاعة.
الطاعة.
يريدان منكما أن تتعلما كيف تسمعا وتطيعا ولا تناقشا. كي يخلقا منكما شخوصاً مستنسخة تتحرك وفقاً لإهوائهما، وفي أوقات الضرورة تدفعكما إلى الكراهية، إلى الإقصاء، ثم العنف والقتل.
"لا تحبا بل إكرها. لا تبتسما بل تجهما. لا تفرحا بل إحزنا". ثم "إحقدا، وحبذا لو قتلتما."
القتل جريمة، لكن معهما نسمي القتل جهاداً. فتدبرا.
الطريقة التي يُرًّوج فيها للدين اليوم تعتمد لذلك على عنصري الخوف والكراهية.
"إذا لم تغطي شعرك سيحرقك الله في جهنم."
"إذا لم تصلي، فأنت كافر، وسيحق قتلك".
"إذا لم تتبع هذا المذهب تحديداً، فأنت من اهل النار بالتأكيد".
"إذا لم تؤمن بالجهاد، فقد كفرت".
"وهؤلاء، غُيرك، هم كفرة فإبتعد عنهم"
"هؤلاء لا يصلون كما نصلي، إسلامهم ناقص بالتأكيد".
"وهؤلاء ليسوا مثلنا، ومقتهم في قلوبنا واجبٌ بالتأكيد".
"عليك ان تؤمن هكذا، أن تصلي هكذا، أن تكون هكذا، وغيرك في جهنم وبئس المصير".
زرع الخوف في قلبيكما ضروري، يدفعاكما إلى الرعب وفي الوقت ذاته يؤصلان فيكما إحساساً دائماً بالذنب، بالذنب، لإنكما وفقاً لرؤيتهما تقترفان الكثير الكثير من الذنوب، مجرد إحساسكما بالحياة، فرحتكما بمتعها، يجعلكما مذنبين، تستحقان جهنم.
كل ما له علاقة بالجمال، بالحب، وبالخير يبدو مكروهاً من هذين الفكرين. وإذا اقدمُتما على الحياة سيشعراكما بالذنب من جديد.
ومع الخوف، الرعب، والذنب، يطوعا عقليكما على عدم التفكير، تتعلما كيف تطيعا، وترددا: "سمعاً وطاعة".
كالببغاوات.
طاعة عمياء.
لا تتفكرا في الكلمات، لا تتدبرا في معانيها، ولا في دلالاتها.
"عليكما أن تطيعا، ولا تناقشا".
ولذلك ستجدان أن احد اهم ملامح هذا الفكر هو رفضه للتفكير، رفضه للسؤال والشك: "إقبل بما نقول كما نقول، ولا تجادل، لا تجادل، عليك اللعنة إن فعلت".
وإذا شككتَ أو شككتي أصبحتما من المنافقين.
هكذا سيقولان لكما.
لكن الحياة دون شك، دون تدقيق، دون تساؤل، هي حياة عمياء، مشوهة لا عقل لها، ولا إرادة.
فلا تصدقا.
شُكا.
تساءلا.
ثم عيشا الحياة.
تعلما كيف تعيشا الحياة، بقوة، ولا تخافا.
وفي الواقع، عزيزي القاريء عزيزتي القارئة، فكرة الإسلام الإنساني التي أطرحها تقوم جوهراً على هذه هذه الدوائر المتشابكة الشك، الحياة، والمحبة.
تتعامل مع الإيمان من منطلق إنساني، من منطلق يشك ولا يقبل بمسلمات قاطعة، كل شيء يخضع للشك بما فيها نصوصنا المقدسة، والقرآن الكريم اولها.
تتعامل مع الدين من منطلق يعيده إلى حيزه الخاص، تؤمن أو لا تؤمن شأنُك، ثم تخرجه من الحيز العام، وتقول إن الدين لايهدف إلى خنق الإنسان بطقوس وشعائر، بل الهدف هو هذا الإنسان نفسه، كرامته وسعادته. ولذا فإن الحياة، التمتع بها، الحب، الجمال، كلها جزء ضروري لحياة إنسانية كريمة.
تتعامل مع الإنسان، رجلا كان أو امرأة، على أنه كائن عاقل راشد قادر على الإختيار، وتسيير حياته كما يشاء. كما يشاء. ولذا فإن أساس التعامل بين البشر ليس معايير دينية، بل معايير إنسانية، هو إنسان، هي إنسان، وهذا يكفي. أقبل بهما، كما اقبل بكما، دون شروط.
حديثي معكما لن يكون عاماً. وهو حديث طويل، احدد ملامحه لكما.
فكرة الإسلام الإنساني كما أطرحها لها عناصر أربعة: أولا، الهوية- إنسان؛ثانيا: إسلام يقوم على مبدأي "العقلانية" و"الحرية"؛ ثالثا، دوائر التفكير المغلقة - الطبيعة البشرية للنصوص المقدسة، ورابعاً،المرأة – إنسان.
الهوية هي الإنسان.
الإنسان أولاً، هو موضوع الحلقة القادمة.

الخميس، 5 أغسطس 2010

بأي كلمات أنعيك؟

لا. لم أبكِ.
بل كنت انشج بالدموع.
والحزن، أيُ حزن؟ حُرقْةٌ.
الروحُ حُرقْةٌ.
فقدُك ليس خبراً، تناولته وسائل الإعلام العالمية بإهتمام.
فقدُك مصابٌ.
فبأي كلمات أنعيك؟
الكلمات تخجل وتتوارى، لا تدري كيف تنعيك.
ولأنها لا تفي بك، الجأتني إلى الصمت.
أي والله، الجمتني. فصمت.
أبكي بصمت، والحزن يرن هو الآخر في نفسي بصمت.
كيف انعيك، إستاذي؟
هل اقول تركتنا، إستاذي المفكر الجليل نصر حامد أبو زيد، بجسدك. لكن روحك وفكرك، بقيا وسيبقيان معنا.
إبن رشد حاكموه، مثلك،حرقوا كتبه وأهانوه، ً كما فعلوا معك، لكن فكره إنتشر، واصبح اساساً لمنظومة فكرية جديدة. كذلك فكرك.
ومن اهانه، من تبجح عند موته، لن يجن سوى الخزي. حتى أمام الموت لا يخجل!
من حاكمك، سيدخل التاريخ لا لشيء إلا لإنه اراد ان يحاكمك . لكن التاريخ سينسى أسمائهم. والمفارقة ان رموز محاكم التفتيش ارادت لك ان تصمت. لكنها نجحت فقط في إيصالك إلى العالمية.
عندما وصلني الخبر كنت في تركيا. وعندما طبعت إسمك باللاتينية في جوجل توالت صفحات التأبين من اشهر صحف العالم، وبالعديد من اللغات. العالم كان ولا يزال يعرف قدرك. والحسرة أن كثيراً من أبناء وطنك، ذاك الذي احببته إلى درجة العشق، لم يعرفوا قدرك إلى يومنا هذا. تماماً كأبن رشد.
كل هذا قيل، وسيقال. لكنه لايفيك. لايفيك. من عَرفَك يدري أن هذه الكلمات لا تفيك.
لأنك لم تكن مفكراً فحسب، كنت إنساناً. ولإنك كنت إنساناً، كنت تخطيء وتصيب، لكنك بقيت دائماً خَيّراً، طيباً، وبريئاً. طيبتك كانت عنوانك. وإبتسامتك كانت روحها.
ولأنك كنت تؤمن بالإنسان في وطنك، بقيت مثقفاً مستقلاً.
أمنت دوماً بحق هذا الإنسان في الوجود بكرامة. تؤمن بضراوة. ولذا كان وجعه وجعك.
فكان لزاماً ان تكون مستقلاً، كي تكون جديراً بإسمك.
مستقلاً.
ليس لديك ما تخسره اكثر من مال لاتريده، ومنصب لا يغريك، وجاه لا يضيرك الإستغناء عنه.
هل تذكر؟ يوم أصريتُ على دفع حساب العشاء في لوتزن بعد أن القيتَ محاضرتك في الحلقة الدراسية التي شاركنا فيها عن الإسلام والحداثة في جامعة لوتزن.
غًلبتك، فقلتَ لي مازحاً: "طيب، سأحرمك من الميراث". فرددتُ عليك بلهجة والدتي: "هو أنتَ حِيلتك حاجة؟"، فضحكت من قلبك. ضحكة الإنسان الصادق المطمئن.
ولذلك كان صوتك مزعجاً للكثيرين.
صوت ضميرنا.
يدفعنا إلى الخجل من انفسنا.
صوت ضميرنا، الشاهد على التغيير الذي شهده عصرنا.
الشاهد على عصرنا.
أنت.
موتك كان مفاجئاً. والموت هو الوجه الآخر للحياة. والله أني اعرف ذلك.
لكنه في حالتك انت، لوعة، فجيعة، وخسارة، أيُ خسارة.
نشيجي اذهل اسرتي. لكن زوجي كان يعرفك هو الأخر، إلتقاك مرة، وسمع عنك مني الف مرة. ولذلك كان يعرف قدرك.
والدموع لذلك قليلة عليك.
صمت، دمع، ونشيج.
ثم بصيص.
كلمات زوجتك القديرة الدكتورة إبتهال يونس كانت البصيص.
قالت لي وهي تبكي فجيعتها في الرجل الذي كان زوجاً، صديقا، وحبيباً لها: "سأحيا كي أجعل إسمه وفكره باقياً".
هي المرأة التي قالت "لا"، لحكم جائر بتطليقها رغماً عنها وعن زوجها.
وهي الشريكة التي قال عنها زوجها في حديث صحافي: "نحن لسنا فقط زوجين، هي إستاذة جامعية، هي مثقفة، وهي ليست فقط زوجة تدعم زوجها، بل هي شريكة تدعم صديق لها".
وهي اليوم، تماماً كيوم صدور الحكم، تُظهر معدنها السامي من جديد.
تقول اليوم "لا" أيضاً.
موتك لن يكون النهاية.
الأمل باق.
لأن الفكر لا يموت.
يبقى.
والفكر مُعدي.
فالفكر لا يومن بالقيود، بالحدود، أو بالخوف، يخرج عن نطاقها، يقدم نفسه في حيز الأفكار، فينتشر في العقول، يتوالد، ويمتزج بغيره، ليخرج عنه فكر جديد، حياة جديدة.
حياتك لذلك تظل، رغم موتك، معنا.
في فكرك.
بيد أن موتك رغم ذلك لايطاق.
لا يطاق.
فبأي كلمات أنعيك؟

---
الصمت يأس.
وخلاصُنا في كسره، والنطق بالفكر كما نؤمن به.
هذا هو طريقنا.
أعود إليكما في المقال القادم.