الثلاثاء، 13 أبريل 2010

الشريعة ليست عادلة 7



إذن.
كان حسن البنا يتابع التغييرات التي تصيب مجتمعه ... خائفا.
يرى العالم كما يتمناه، كما يتصوره، ينهار، يتغير يتبدل.
ولأنه لا يريد لعالمه أن يتغير، لا يريد المرأة كما أرادها أتاتورك، سافرة مستقلة متحررة، ولا يريد الدولة كما نظمها اتاتورك، دولة حديثة تقوم على مفهوم المواطنة لا الدين، لكل هذا خرج علينا بفكر حزبه السياسي.
حزب الأخوان المسلمين.
شخص متدين يحاول أن يقف امام زحف الحداثة، فقرر أن يواجهها بفكر جوهره بسيط، إن لم يكن ساذجاً.
وأكاد أجزم أنه لولا الخواء الفكري الذي عاشته مجتمعاتنا في نهاية الستينات والسبعينات بسبب قمع الدولة وبطشها، لما قدُر لهذا الفكر ان ينتشر كما نراه اليوم.
الجوهر كان بسيطاً: "علينا أن نطبق الشريعة في حياتنا".
هذه الفكرة إبتكرها حزب الأخوان المسلمين.
اقول إبتكرها لأن حسن البنا حّولَ "مجموعة من القوانين" كانت تتطور مع الزمن إلى "فكرة مقدسة"، تطبيقها يجعلنا "أشخاصاً افضل"، والمس بها يصبح "مساً بالإيمان ذاته".
لاحظا أنه قبل ذلك لم يفكر أحد في "تطبيق الشريعة" كهدف اسمى للدولة.
كانت الدولة العثمانية ومصر وتونس (بإعتبار ان مصر وتونس حازتا على تجربة راسخة في سيطرة الدولة المركزية) تطبقان هجينا من القوانين، بعضها مستمد من القوانين الرومانية والفرنسية والبريطانية، والبعض الاخر من الفقة الإسلامي، وكانت كلٌ منها تطور فيها بما يتماشى مع الزمن والحاجة.
وهو أمر منطقي. فالقوانين إنما توجد كي تنظم بيئة وواقع الإنسان، ولذا يجب تطويرها وتغييرها بما يتماشي مع ذلك الواقع. ليست مسبوكة من الحجر الصلد، لا يمكن مسها. بل قواعد الهدف منها تنظيم حياتنا بما يتلائم مع العصر الذي نعيش فيه.
الدولة العثمانية بدأت عملياً في علمنة قوانينها قبل إنهيارها بعقود طويلة فيما عرف بحركة التنظيمات الإصلاحية، ومصر مهدت لتطبيق المساواة بين ابناءها بغض النظر عن الدين بسبب القوانين العلمانية التي بدأت في تطبيقها مع حركة محمد علي باشا النهضوية، وباي تونس كان اول من اخرج دستوراً في منتصف القرن التاسع عشر في 1861، قنن فيه مفهوم المواطنة والمساواة.
----
فكرة حسن البنا أرادت ان تتجاهل هذه الحقائق، و ككل الأفكار الشعبوية ظلت بسيطة.
يقول في مذكرات الدعوة والداعية: "إن ما في المجتمع من فساد وشر وسوء، ناتج من تركنا لأحكام الإسلام، وإلى وجوب الدعوة إلى تصحيح هذا الوضع – وإلا كنا آثمين. إن الأمر بالمعروف والنهي عن المتكر وبذل التضحية فريضة وواجب. وأن الطريقة الفردية وحدها لا تكفي".
الفساد والشر والسوء الذي عناه حسن البنا كان يتعلق بتغييرات إجتماعية تلحق بعالمه، المرأة تخرج إلى الحياة من شرنقة الحرملك، وتنزع عنها السواد، والأسر تتنزه في الحدائق، والمقاهي تفتح أبوابها للجمهور، والشباب يقبلون على السينما والموسيقي.
بكلمات اخرى، كل ما له علاقة بالمدنية والجمال والحياة كان مغضوباً عليه من قبل حسن البنا.
وفي الواقع، كان الرجل اميناً مع فكره، فالفكر الديني عندما يتطرف يكره الحياة والجمال والألوان، ويريدها سوداء، حالكة، مكفهرة، غاضبة، متجهمة.
هل نسيتم وجوه علماءنا السلفيين ونظرائهم في إيران؟
حسن البنا كان مقتنعاً أن ما يصفه بالفساد، وأصفهُ انا ببهجة الحياة الحلوة، تجب مواجهته من خلال العودة إلى أحكام الأسلام.
كأن الناس حينها لم يكونوا مسلمين كفاية!
وفي الواقع كانوا مسلمين، وربما عايشوا روحانية لا نعرفها اليوم رغم هوجة التأسلم الشعبي الشرسة التي نشاهدها في كل انحاء البلدان العربية ونراها في مظاهر، مظاهر، مظاهر، لا تعني في الواقع شيئاً.
لكنه لم يكن يريدها روحانية.
المسألة بالنسبة له لا علاقة لها بالإيمان بالله من عدمه. كانت فكرة سياسية، يريد منها وحزبه الوصول إلى السلطة.
ما أراده هو وحزب الأخوان المسلمين من بعده هو دولة دينية، تستبد بالكهنوت، ولذلك كان طبيعياً ان يكمل عبارته اعلاه بالقول إن "الطريقة الفردية في الإيمان لا تكفي". لا تكفي لأنه لا يتحدث عن إيمان بالله. ما يريده هو السلطة والحكم من خلال ما اعتبره هو احكام الله.
لكنه في كل احاديثه ورسائله ظل غامضاً عندما يتصل الأمر بما يعنيه ب"أحكام الله" هذه.
يقول في مذكراته: "نحن مسلمون وكفي، ومناهجنا منهاج رسول الله وكفى، وعقيدتنا متسمدة من كتاب الله وسنة رسوله وكفى".
لم يستطع يوماً ان يّعرف لنا ما يعنيه بالشريعة.
هل هي كل الأحكام الفقهية التي تطورت عبر القرون الأربعة عشرة الماضية؟ هل هي الأحكام الواردة في القرآن والسنة والأجماع والقياس؟ وإذا كان الأمر كذلك، فوفقاً لأي مذهب ؟ هل هي سنية ام شيعية أم زيدية؟ هل تدخل فيها الأحكام الصوفية؟ وإذا كانت سنية فوفقاً لأية مدرسة فقهية ؟ الحنبلي، الشافعي، الحنيفي، ام المالكي؟
لا.
حسن البنا لم يكن يعرف في الواقع عما يتحدث. فالرجل كما قلت لكما لم يكن متبحراً في علوم الدين ولا الدنيا. كان شاباً حاز على دبلوم تعليم متوسط. لكنه كان يؤمن بفكرته البسيطة، وأستطاع ان يجمع حوله مريدين، مثله، يؤمنون بالأفكار البسيطة طالما ظلت عامة.
عامة.
إذا تمعنتما في فكر حسن البنا، وفكر الإخوان المسلمين تحديداً، ثم فكر الإسلام السياسي عموماً، ستلاحظان دوماً أن فكرهم يتحدث بصورة عامة، عامة، عامة.
عامة.
وهو عام عمداً. لأن العموم قادر على دغدغة العواطف الدينية. وقلت سابقاً واكررها من جديد إن شعوبنا طيبة. تحب الله. وتصدق من يحدثها بإسم الله. وتنسى دوماً ان من يحدثها يحدثها بلسانه، وأن الله لا علاقة له بطموح هؤلاء إلى السلطة.
فكرة حسن البنا كانت عامة: "منهاجنا منهاج رسول الله وكفى".
من يجرؤ على الأعتراض على منهاج الرسول الكريم؟
لكن إنظرا إلى الكيفية التي تم بها تحديد هذه الفكرة العامة في الواقع من خلال إجراءات وقواعد مفصلة، وسيتبدى لكما على الفور القيود الصارخة التي تفرضها أفكار حسن البنا العامة والإسلام السياسي على حياة الإنسان، حريته، وعلى مفهوم المساواة والعدالة.
تذكرا ما حدث في غزة بعد وصول حماس إلى السلطة. في البداية كان الناس متحمسين لوصول هذه الحركة بسبب شعاراتها البراقة وفساد حركة فتح. لكن عندما خلت الساحة لحماس في غزة وبدأت في فرض رؤيتها الدينية أدرك الجميع مدى جبروت الحكم الديني، وكيف يزرع الخوف في قلوب الناس، ويخنق حريتهم.
غابت الألوان.
وعندما اختارت الحركة ان تحارب فكرة، انقضّت على عيد الحب.
اليس غريباً ان يخاف هذا الفكر من الحب إلى هذه الدرجة؟
لا. ليس غريباً.
فهو يدرك انه والحب نقيضان.
-----
حسن البنا اختصر كل التاريخ الغني الثري لقواعد الفقه الإسلامي في كلمة واحدة أسماها "شريعة". ومن بعده حمل لواء الشعار كل الحركات الإسلامية وبعض الدول الإسلامية.
لكن الشريعة كما يراها وكما تطبقها كل الأنظمة الدينية الإسلامية اليوم ليست عادلة.
الشريعة، اكرر، ليست عادلة.
اقولها بلا مواربة لأني على قناعة بأن الطريقة المباشرة في التعبير تصل بالمعنى إلى مبتغاه.
واقولها بلا مواربة لأن طريقتنا غير المباشرة في التعبير والرقص حول الحقائق اوصلتنا إلى حالنا اليوم: هوس ديني لا يؤمن بالله، بل بالطقوس والشكليات.
وأقولها بلا مواربة لأنه حان الوقت ان نضع النقاط على الحروف: الدولة الدينية التي تطبق مفاهيم الشريعة على افراد مجتمعها اليوم تنتهك حريات افرادها، وتميز في معاملتها بين مواطنيها، وتقهر المرأة والأقليات الدينية فيها.
هذه الدولة ليست عادلة. ومنهاجها ليس عادلا.
الشريعة ليست عادلة لإنها تقدم مفهوماً دينياً لقواعد قانونية تعكس واقعها الأجتماعي الذي إنبثقت منه، اي في الأغلب القرون الثلاثة الأولى من تاريخ الدولة الإسلامية، لكنها اليوم لا تتماشى مع واقع القرن الواحد والعشرين.
ليس من العدالة اليوم أن نقطع يد السارق، وأن نلحق به عاهة مستديمة.
هذا العقاب يتماشى مع مجتمع القرن السابع الميلادي، لكنه بالتأكيد عقاب بشع اليوم.
وتماماً كما كففنا عن إستخدام الجمال في تنقلاتنا وسفرياتنا بين عواصم الدول، ولجأنا إلى إستخدام الطائرات ووسائل النقل الحديثة دون أن نجد غضاضة في ذلك، حري بنا أن نصل إلى قناعة أن عقاب السارق هو السجن، وان الأفضل بعد ذلك إعادة تأهيله كي يتمكن من الإندماج في المجتمع كعضو نافع من جديد.
قطع يده سيلحق به عاهة مستديمة، لن تمكنه من العمل، وتحوله إلى عالة على المجتمع.
ولأن الأمر كذلك، فيجب ببساطة القول إنه ليس من المنطقي الدعوة إلى تطبيق مثل هذه العقوبات البدنية.
مثل هذه العقوبات عاف عليها الزمان. والكف عن تطبيقها ليس رديفا للكف عن الإيمان بالله تعالى.
في الواقع لا توجد علاقة بين الأمرين.
ألم نكف عن الحديث عن التسري بالجواري وتملك العبيد، رغم ان هذا الحديث موجود في القرآن نفسه؟ اليوم لن يجرؤ شخص، إذا تجاهلنا المهووسيين من السلفيين ممن يعيشون في القرون الوسطى، على الدعوة إلى تملك العبيد.
لا أرى ما يمنع من تبني قوانين وقواعد مدنية تنظم حياتنا بصورة تعكس مفاهيم اليوم للحقوق والحريات.
---
اكره أن يكون حديثي عاماً هو الأخر.
قلت لكما أن قواعد الشريعة المعمول بها اليوم حسب رأيي ليست عادلة.
وكي اوضح موقفي سأضرب لكما مثلاً.
في المقال القادم سأعقد لكما مقارنة بين قواعد الشريعة الخاصة بالمرأة في الأسرة، والقواعد المعمول بها في القانون السويسري للأحوال الشخصية، وهو القانون الذي عُدل في عام 1988 كي يتماشى مع إتفاقية القضاء على كافة اشكال التمييز ضد المرأة الأممية.
بعدها سأسألكما: أيهما اعدل؟
وإلى ذلك الحين، أسألكما التأني في تكفيري.

إلهام مانع