الخميس، 25 مارس 2010

"معاً مع حسن البنا ضد الحداثة"! 6

لم يكن شيخاً.
أعني حسن البنا.
لا.
كما لم يكن إماماً، لا أكبراً ولا أصغرا.
كان معلماً في مدرسة إبتدائية بمدينة الإسماعيلية في مصر..
ووجهته الدينية بدأت عندما أصبح من مريدي شيخ الطريقة الحصافية الصوفية، عبدالوهاب الحصافي. ذاك الذي كان يوصي مريديه دوماً، بألا يرددوا كلام "الملاحدة والزنادقة والمبشرين".
فتأثر الشاب. ثم خرج علينا بحزب سياسي. الأخوان المسلمين.
حسن البنا عاش في بدايات القرن العشرين.
فترة مخاض.
العالم يتغير بسرعة تسرق الأنفاس. الأفكار تتوالد وهي تلهث، ثم ترفس ماكان قبلها كي تحل محلها، عادات وتقاليد تزول، تزيحها انماطٌ اخرى بقيم جديدة، ودول عظمي تتهاوى، لتحل محلها اخرى.
العالم كان يتغير، و يعيش فترة مخاض.
وحسن البنا عايش هذه الفترة. بكل ما فيها من تغيير. بكل ما فيها من تجديد. وبكل الخوف والفزع الذي يثيره التغيير.
بكل الخوف والفزع الذي يثيره التغيير.
----
عايش فترة بدأت فيه نساء الطبقة الوسطي والعليا في مصر في الخروج من الحرملك.
خرجن من الحرملك - تقليد وعادة اخذتها مصر عن أتراك الدولة العثمانية.
يفصل فيها المقتدرون نسائهم ويعزلونهم عن العالم.
كسرن القيد. وبدأن في خلع النقاب. الواحدة بعد الأخرى. خرجن من الظلام إلى الحياة. أردن أن يتعلمن، أردن أن يعيشن. يتنفسن هواءاً طلقاً، ويمارسن دورهن في مجتمعهن.
أردن أن يكَنَ.
ما أجمل الحياة عندما نعيشها.
وأقول المقتدرين من المصريين عامدة.
فالغالبية الساحقة من الشعب المصري، التي كانت تعيش في الأرياف، لم تكن لتفكر في مثل هذا "الترف الإقصائي". في فصل نسائهن في حرملك. ما كانت قادرة على ذلك. فالمرأة والرجل كانا يعملان معاً في الحقل، يزرعان الأرض بأيديهما، ولأنهما جزءاً من الطبيعة، لم يكن من الطبيعي أن ترتدي المرأة الفلاحة رداءا أسوداً يقيد حركتها وهي تعمل، كما لم يكن من الطبيعي أن تغطي وجهها وتخنق أنفاسها، وهي تنحني على الأرض تبذر، تزرع، تسمد، وتحصد. وفوق كل هذا ترعى أسرتها واطفالها.
كانت عادة، عادة غير طبيعية. ضد طبيعة الإنسان. تخنق المرأة. تقيدها في شرنقة. وتمنعها من ان تمارس حياتها كما اراد الخالق لها أن تُمارس. فنبذتها المرأة المصرية الفلاحة.
ما أجمل الحكمة عندما ندركها بالفطرة.
فقط المقتدرون كانوا قادرين على عزل نسائهم. لم يكونوا حكماء. كانوا مقلدين. قلدوا غيرهم دون أن يفكروا. ففرضوا التعاسة على نسائهم.
لكن الزمن كان يتغير، والنساء أدركن بعد أن تعلمن وقرأن أن عزلهن قيدٌ يتناقض مع الطبيعة. وأنها عادة. فقط عادة، يمكن تغييرها، وإدانتها ايضا.
فخلعن النقاب.
---
أنتِ ايضاً قادرة اليوم على خلعه.
أخلعيه أنتِ أيضاً.
وأخرجي إلى الحياة.
وكوني.
كوني ما تريدين.
----
حسن البنا عايش هذه الفترة.
كان يرى تغييراً إجتماعياً يتجسد امام عينيه.
لم ير فقط النساء يخرجن من الحرملك. بل رأى المجتمع كله يتغير.
المرأة تخرج لتتعلم، والأسر معها تتغير.
والقيم تتغير.
فزع يتغلل في نفس حسن البنا. عالمه يتهاوى. يتمدن. الحداثة تمتد إليه. وهو يقف جامداً. لا يريد أن يتغير. لايريد أن يتمدن. يريد عالمه كما كان.
----
الأهم، أن حسن البنا كان يرى العالم السياسي كما فهمه يتهاوى أما ناظريه.
الدولة العثمانية، الخلافة الإسلامية كما كان يسميها، تنهار.
انقسمت اجزاءها، تبعثرت، بعضها استقل، وغيرها إُستعمر، او وُضع تحت وصاية.
والدولة العثمانية نفسها، إنكمشت لتصبح الدولة التركية.
والدولة التركية، أمله، تلك التي كان يأمل أن ترفع لواء الخلافة، رفضت رفع ذلك اللواء. كانت حكيمة هي الأخرى.
أدركت، لحسن حظها، أن الزمان غير الزمان، وأن المستقبل لدولة حديثة، لا لخلافة عثمانية متهرئة متهالكة.
المستقبل للحداثة.
كمال أتاتورك جاء، الغى منصب الخلافة، عزل الخليفة، وأحل محل نظام الخلافة نظاماً جمهورياً يقوم على مبدأ القومية الوطنية: "نحن أتراك. ومسؤوليتنا تجاه وطننا. تركيا".
فتهاوى النظام السياسي الذي اعتبره حسن البنا نموذجه.
كان أتاتورك رجلاً طموحاً لديه رؤية للمستقبل، ادرك أن تركيا التي يحلم بها لن تكون قوية ما لم تكن مهيئة للمستقبل، ولكي تكون كذلك، عليها أن تتبنى نظاماً سياسياً جديداً، يمُكنها من الدخول إلى الحداثة.
فجعل العلمانية أساس الدولة التركية الحديثة.
فَصلَ الدين عن الدولة.
لم يقل للناس كفوا عن الإيمان بالله.
كل ما قاله، ان الدين مكانه الحيز الخاص.
----
أن تؤمن أو لا تؤمن شأنك أنتَ وأنتِ. شأنكما الخاص.
لكن الحيز العام لا يحكمه الدين. الدين ينظم علاقة الإنسان بالله. لكن علاقة الإنسان بالدولة يحكمها القانون. والقانون يجب ان يكون علمانياً كي تستطيع الدولة ان تتعامل مع مواطنيها بحياد، أياً كان هذا المواطن: مسلماً، ملحداً، سنياً، صوفياً، شيعياً، مسيحياً، يهودياً، رجلاً، إمرأة...
المواطنة هي المحك.
لا الدين.
الدين لا يجب ان نقحمه في تنظيم حياتنا السياسية والقانونية والإجتماعية (قوانين العائلة).
مكانه الحيز الخاص. حيث تؤمن أو لاتؤمن. وعندما تضعه في ذلك الحيز، يمكنك بالفعل ان تكتشف معنى الروحانية. إذا رغبت في إكتشاف تلك الروحانية.
----
ولهذا اعتبرُ العلمانية الجوهر الذي لا يمكن الإستغناء عنه لبناء دولة مدنية حديثة.
لا اعتبرها شتيمة. لا اعتبرها بعباً يخيف.
بل أقولها ببساطة: أنا علمانية.
علمانية.
ثم أضيف عبارة :علمانية مدعمة بأحترام حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين، كي لا نسقط في الفخ الذي سقطت فيه تركيا بعد أتاتورك. كانت علمانية، لكنها لم تحترم حقوق أقليتها الكردية، وكانت شرسة في العقود الأولى في قمعها لحرية التعبير.
----
أتاتورك لم يكتف بذلك.
زاد على ذلك بأن أدرك، وكان على حق مرة أخرى، أن التغيير إلى الحداثة كي يتجسد يبدأ مع المرأة.
منع النقاب.
وسن القوانين، الواحدة تلو الأخرى.
منح المرأة حقوقها السياسية، ثم غير قوانين الأسرة، وحولها إلى قوانين مدنية بعد أن كانت مستمدة من قواعد الشريعة الإسلامية، وتبنى القانون السويسري للعائلة، الذي وإن كان أبوياً في رؤيته وقواعده، إلا أنه مهد الطريق لمفهوم المساواة بين الرجل والمرأة في العلاقات العائلية.
لم يعد من حق الرجل ان يطلق زوجته بكلمات ثلاث: طالق، طالق، طالق.
بل أصبح من حق الرجل والمرأة الطلاق من خلال تقديم طلب إلى محكمة مدنية محايدة.
كمال أتاتورك كان يرى المستقبل بعينيه.
يراه.
وكان يدري أن الدولة العصرية تحتاج إلى إسرة مكونة من رجل وإمرأة، وعددٍ من الأطفال، حبذا لو كانا طفلين.
الدولة القبلية في المقابل، تحتاج إلى رجل واربع زوجات وجيش من الأطفال.
لكن دولة القبائل لا تحمي الإنسان فيها.
دولة القبائل تقتل الإنسان فيها.
ولأن المستقبل للحداثة، أرادها أتاتورك معاصرة.
-----
وحسن البنا كان يتابع كل هذا.
من بعيد.
من مصر.
يرى العالم كما يتمناه، كما يتصوره، ينهار، يتغير، يتبدل.
وهو لا يريده أن يتغير.
لا يريد المرأة كما ارادها أتاتورك.
لايريد الدولة كما نظمها أتاتورك.
لايريد المجتمع والأسرة كما تصورها أتاتورك.
فخرج علينا ببدايات فكر حزب الأخوان المسلمين السياسي.
هو حزب. وسياسي. يستخدم الدين كغطاء. غطاء فقط.
وفكره في الواقع لم يكن أكثر من محاولة يائسة من شخص متدين للوقوف امام زحف الحداثة.
لا يريدها دولة حديثة، لا يريدها وطناً لمواطنين متساويين أمام القانون، تماماً كما لايريدها إمرأة حديثة.
اساس ذلك الفكر كما روج لها حسن البنا تتلخص ببساطة في كلمات ثلاثة: "الشريعة، الجهاد، الأمة، ".
---
في المقال القادم سأبدأ بكلمة الشريعة كما وصفها حسن البنا، ثم اعرض لكما موقفي الذي يتلخص في عبارة "حان الوقت كي نكف عن إستخدام الشريعة في تنظيم شؤون الأسرة والحياة".

إلهام مانع

الاثنين، 1 مارس 2010

الوطن... الإنسان! (5)

من بين المواد التي ادرّسها في جامعة زيورخ مادة "سياسات شبه الجزيرة العربية".
عنوان المحاضرة الثانية فيها هي "التاريخ والأسطورة"! محورها هو عبارة واحدة:"التاريخ يكتبه البشر".
والتاريخ، عزيزتي الشابة عزيزي الشاب، مشكلتنا اليوم.
كيف نقرأ التاريخ؟
في محاضرة "التاريخ والأسطورة" عادة ما اقرأ على طلابي وطالباتي عبارة: "الأسطورة تقول لنا أن الكونفدرالية السويسرية تأسست في عام 1291، لكن الحقائق التاريخية تقول لنا أن سويسرا كدولة بين الدول الأروبية لم تظهر إلى الوجود فعلاً إلا في القرن الخامس عشر".
وهذه العبارة ليست عبارتي بل كتبها الباحث التاريخي السويسري المعروف أورليخ إيم هوف في كتابه "إسطورة سويسرا:الهوية، الأمة، التاريخ، 1291-1991).
امهد لطالباتي وطلابي بهذه العبارة لأن تاريخ شبه الجزيرة العربية كتُب أيضا بصورة تعكس الرؤية الرسمية للدولة، وهذه الصورة لا علاقة لها في احيان كثيرة بحقائق ما حدث فعلاً على أرض الواقع.
لو قرأتما تاريخ المملكة العربية السعودية الحديث كما يدُرس في الكتب المدرسية، ستجدان أن الهدف منه هو أن يخلق علاقة إرتباط بين الحاكم والمحكوم ولكن وفقاً لرؤية محددة: رؤية تصر على أن التحالف القائم بين أسرة آل سعود الحاكمة وإسرة آل الشيخ محمد عبدالوهاب كان ضرورياً لإنقاذ سكان أقاليم المملكة من التردي والضياع والزياغ عن طريق الإسلام "الصحيح".
هذه القراءة للتاريخ تبرر لما حدث بعد ذلك في بدايات القرن العشرين، من غزو لمناطق الإحساء والحجاز ثم عسير ونجران، ولتأسيس المملكة أيضاً.
والسؤال هو، هل كانت اقاليم المملكة فعلاً تعيش في حالة الضياع هذه؟ دعونا نطرح السؤال بصيغة اكثر تحديداً، كيف كان حال منطقة الحجاز قبل ضمها إلى المملكة بعد حصار 1925-1926 ؟ كانت تحت الوصاية العثمانية، وكانت في الواقع قبلة للحجاج المسلمين من كافة ارجاء العالم، وكانت حاضرة مدنية. دعوني اكرر هذه العبارة من جديد: "كانت حاضرة مدنية". ولأنها كذلك ظلت إلى منتصف السبعينات المقر الذي يضم السفارات والبعثات الدبلوماسية العربية والأجنبية. ولأنها كذلك، كان أبناءها (الذين مثلوا الفئة الأكثر تعلماً في المملكة) هم الكادر الأدراي الذي بنيت عليه الدولة السعودية، إلى أن بدأت عملية نجدنة الأدارة في عهد الملك فهد بن عبدالعزيز.
لم تكن وكراً لمشركين.
ولم تكن تعاني من حالة إنهيار اخلاقي وديني.
التاريخ هنا يبدو ملفقاً وفقاً لرواية الدولة الرسمية، خاصة إذا اعتبرت ما حدث من مروعات في الأحساء على سبيل المثال "فتحاً" "إبتهج" به سكان الأحساء من الشيعة.
بالنسبة لهم، كانت نكبة.
والتاريخ هنا يصبح تعدياً على الإنسان، عندما يتعلم الطفل في مدرسته أن مذهب والديه، رافضي ضال كافر، يستحق من يؤمن به القتل.
بنفس النسق، تصر كتب تاريخنا اليمني الحديث على تسمية الحرب الأهلية التي حدثت في صيف عام 1994 على أنها حرب "إنفصال".
"كانت حرب إنفصال، لا حرباً اهلية". هذه هي الرواية الرسمية.
وتصويرها على أنها حرب تهدف إلى إنفصال، يحولها مباشرة إلى حرب بين "حق" و"باطل". في حين ان القول بأنها كانت حرباً اهلية، يضعها في سياقها الطبيعي: حرب بين شريحتين في القيادة الحاكمة للدولة اليمنية الموحدة، اختلفا على إسلوب الحكم، وفلسفة الدولة، وتنازعا في الوقت ذاته على القوة والسلطة، ولم يثق احدهما في الأخر منذ لحظة توقيع إتفاقية الوحدة، ولذا كانت الحرب تحصيل حاصل.
----
إقول لطلابي إنه إذا كان من الطبيعي لكل المجتمعات والدول أن "تختلق" تاريخها إلى "حدٍ ما"، فإن المشكلة في شبه الجزيرة العربية أن هذا "الإختلاق" يمهد في الواقع "لهيمنة" فئة محددة في الدولة على باقي فئات المجتمع.
وهنا المعضلة.
اقول لطالباتي إن من يريد ان يدرس هذه المنطقة عليه أن يدرك حقيقة اساسية، وهي ان كل دول المنطقة (في شبه الجزيرة العربية) دول جديدة. حديثة النشأة. قد تكون مجتمعاتها قديمة، لكنها كدول لازالت جديدة، وإن هذه الجِدة، تفسر الكثير الكثير مما يحدث على أرض الواقع اليوم.
أقول لهن أيضاً ان هذه الدول منذ نشأتها وإلى يومنا هذا تواجه رؤيتين فكريتين، الأولى قومية عربية، تقول بوجود الأمة العربية، والثانية إسلامية عالمية، تقول بوجود إمة إسلامية، وكلتاهما لا تعترفان بوجود هذه الدول بحدودها الجغرافية. وأن هاتين الرؤيتين تمثلان في الواقع محور الأزمة التي تمر بها دول المنطقة: هل هي دول لها حدود جغرافية وسيادة، ويعيش فيها مواطنون ومواطنات متساوون امام القانون؟ أم هي جزء من أمة، بلا حدود، تجمعها قومية أو هوية دينية؟
والمشكلة، أن كلتاهما لا تعترفان بمفهوم الإنسان، وحقوقه.
حقوقه.
كل منها تضع امام الإنسان تصنيفات وتضييقات تنسف مفهوم حقوق الإنسان الذي نعرفه اليوم من جذوره.
الفكر القومي العربي في كل تطبيقاته السياسية التي عرفناها في تاريخنا الحديث كان تجسيداً للحكم الشمولي.
والفكر الإسلامي في تطبيقاته السياسية وتصنيفاته الفكرية لا يعترف بحقوق وحريات الفرد، ويُّعرف الإنسان بأنه ذكرٌ مسلم!
ثم إذّكر طالباتي وطلابي بإن إحتلال العراق للكويت دفع كل هذه الدول، ومعها دول المنطقة العربية الأخري، إلى مواجهة هذا السؤال.
الكويت ادركت أنها وإن كان بعض من مثقفيها يدعمون فكر القومية العربية، وبعض من ناشطيها يدعمون فكر الأخوان المسلمين، إلا أنها أولاً وأخيراً دولة لها حدود جغرافية، وأن هناك شيء إسمه الكويت بالفعل، حتى لو كانت كتب التاريخ لم تأتِ على ذكر إسم الكويت قبل مائتين وخمسين عاماً.
اليوم هي دولة ذات حيز ونطاق، يمثل التعدي عليه من دولة "عربية" او "إسلامية" إحتلالاً.
كان إسمه إحتلالاً، إذا كان لازال لدى البعض شك في ذلك.
ووقف مثقفو الكويت ومعهم ناشطو الأخوان كلهم جميعاً صفاً واحداً دفاعاً عن الكويت، دفاعاً عن وطنهم.
واقول لهما إن بعض كيانات المنطقة ستظل مصطنعة هشة قابلة للإنهيار طالما لم تقر النخبة الحاكمة فيها بأن خلاصها هو في الإيمان بالإنسان في أوطانها.
بالتعامل مع هذا الإنسان، رجلاً كان ام أمرأة، على أنه كيان راشد عاقل، له رأي، ويتمتع بحق الحرية والإختيار.
بالتعامل مع الإنسان في أوطانها على أنه مواطن يقف مع غيره من المواطنين متساوياً امام القانون، بغض النظر عن هويته، دينية كانت، او مذهبية، او عرقية، او لونية، او نوعية (جندرية).
أقول لهما إن دول المنطقة لن تستمر، اكرر لن تستمر، طالما تظن أنها محصنة ضد الديقراطية وحقوق الإنسان.
فأعتمادها على دعم اقلية مذهبية او قبلية يظل هشاً، وبقاؤها مرهون حتماً بدعم كافة شرائح المجتمع.
فالأحرى أن تبدأ بإصلاح نفسها، قبل أن ينقلب شعبها عليها، ويصبح الإصلاح ضمن إطار الدولة الواحدة مستحيلاً.
------
في المحاضرة الأخيرة من مادة سياسات شبة الجزيرة العربية أودع طلابي وطالباتي بعبارة تحذير، أكررها كل مرة:
"ماقدمته لكما في هذه المادة هو قراءة من بين قراءات متعددة للتاريخ السياسي للمنطقة، وهي وإن اعتمدت على مناهج بحث علمية، إلا إنها تظل ملونة بالعدسة التي استخدمها في هذه القراءة، عدسة حقوق المواطن و الإنسان. ولأنها كذلك، فإنها قد تكون متحيزة، متحيزة للإنسان. فلا تأخذا ما درّسته لكما على علاته. لا تصدقاني! بل دققا، وشككا، ثم إنقدا، ولعلكما تصلان إلى رؤية مغايرة لما طرحته في هذا المادة. كلاكما له عقل، إستخدماه".
في نهاية هذه العبارة، ارى الدهشة في عيون طلابي وطالباتي، لكنها دهشة ممزوجة برغبة متجددة في إلاستزادة المعرفية عن المنطقة.
دهشة الذي استفاق. كان يظن أن من أمامه يخرجُ من فمها الحق، وهاهي تقول له: "لا تصدقني. الحقيقة متعددة، أبحث عنها في صورها المتعددة بنفسك. لا تنتظر مني أن القنك المعرفة. فدوري أن اقدم لك إطاراً، تبحث فيه او خارجه، في النهاية، عقلك مادام منهجه علمي سيكون الحكم"!
لم يكن غريباً لذلك ان مجموعات من طلابي وطالباتي عمدت إلى السفر في رحلات بحثية إلى المنطقة. ارادوا ان يعرفوها، ويكتشفوها بأنفسهم.
وفي الواقع، لا أظن انهم كانوا سيرغبون في فعل ذلك، لو أن مضمون ما درسته لهم هو "كراهية المنطقة".
على العكس، في نهاية تلك المادة، يصبح واضحاً جدأً، مدى حبي لهذه المنطقة.
أحبها اخوتي، أحبها.
تماما كما احب لغتي. الرحم.
وهي جلدي، تلتصق بلحمي، أنا منها، لكني اختنق بواقع الإنسان فيها.
ولأني أختنق،
انتقد.
----
في المقال القادم احدثكما عن الخلافة والأخوان. وسأحدثكما عن العلمانية. تلك التي اؤمن بها.
إلهام مانع