الأحد، 25 أكتوبر 2009

دوائر الهوية

منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية، وأسئلة كثيرة تنهال علي هنا في موطن الهجرة سويسرا، من بعض السويسريين أنفسهم.

"أنت مسلمة"، كانوا يقولون، "لما لا تشاركيننا الرأي فيما يحدث من حولنا".

أو يقولون "كمسلمة، ما الذي يعنيه لك مقتل المخرج الهولندي فان جوخ، أو الهجمات الإرهابية التي استهدفت لندن.. الخ".

وفي كل مرة كنت اشعر بالرغبة في الصراخ.

في شد شعري، والزعيق في وجههم.


فالمشكلة التي كنت أواجهها في كل مرة يطرح علي مثل هذا السؤال "كمسلمة"، هو أني لم أعتبر نفسي يوماً "مسلمة"!

أليس من الغريب أن تفرض عليك هوية ما، ثم تجدها ملتصقة بجلدك، مكتوبة على جبهتك وأنت لا تدري؟

كوني "مسلمة" لا يزيد عن رؤية من يفرضها علي، لأنه لا يري في كياني المتواجد داخل مجتمعه سوى الجانب الديني منه. هذا رغم أني أحمل الجنسية السويسرية مثله، ولي نفس الحقوق والواجبات التي يتمتع بها محدثي.

وأنا بالتأكيد مكونة من هويات عديدة، لكن "المسلمة" منها ليست المحددة الأولى لطينتها.

هويتي تتداخل في دوائر متشابكة، ثلاث منها هي الأكثر وضوحاً. الدائرة الأوسع والأهم فيها هو كوني إنسانة.

إنسانة.

لا أقول هذا لأن وقع الكلمة جميل. ويعلم الله أن وقعها جميل، نلوك بها ألسننا ولا نعنيها في الكثير من الأحيان.

أقولها لأني أؤمن بها.


أؤمن أن الهدف الأسمى في الحياة هو حماية كرامة الإنسان.

هو أولا وأخيرا.

تماماً كما أنه هو الحل، الإنسان لا الإسلام.

وأن هناك قيم إنسانية تتجاوز اللون والجنس والدين، قيم تجعلني أنظر في عيني محدثي بغض النظر عن هويته، وأرى فيهما شيئاً غالياً، شيئاً نفيساً يستحق أن أحترمه وأجله.

تقف ضمن الدائرة الإنسانية دائرة الهوية العربية واضحة هي الأخرى.

لا أقول يمنية.
رغم أني أعتز بجذوري اليمنية، وأفخر بها.

بل أقول عربية.

عربية لأني ولدت في مصر، وفي عروقي تجري دماء مصرية أيضاً.


عربية لأني عشت في بلدان الوطن العربي، في مغربها ومشرقها وخليجها.

ولذلك تشربت بلغتها،

اللغة الهوية الأم،

أمي التي رضعت من حليبها.

وعشقت ثقافتها.

وتمثلتها نفساً أستنشقه كلما خنقتني الغربة.

لكن كل ذلك لم يجعلني عنصرية في محبتي لهويتي العربية. فقد عشت أيضاً في بلدان أخرى غير عربية، إسلامية وغربية.

والنتيجة التي خرجت بها من كثر الترحال أن البشر يتشابهون كثيراً. قد يختلفون في أنماط وأساليب حياتهم، في طرق التعبير عن ثقافتهم وهويتهم، في ألوانهم وألسنتهم، لكنهم في النهاية يحبون، ويكرهون، ويقلقون، وهم في العادة عنصريون.

أخيراً، تأتي دائرة انتمائي للإسلام. وهي دائرة خاصة للغاية، اخترتها اختيارا. فلو كنت ملحدة لقلت إني ملحدة.


لكني قررت أن أكون مسلمة.

فهذا من حقي، أن أؤمن بما أشاء.
ورغم قراري هذا، أحرص علي كينونتي المسلمة من العلانية، هي جانب حميم مني، فيها أعايش روحانيتي، وبها أشبع احتياجي إلى الله.

وهي في كل هذا تظل هوية خاصة، ليست شاملة، ولا أريدها أن تكون شاملة.

أنا كيان معقد، لست شيئاً مبسطاً كما قد يرغب البعض في تصويري.


وهذا البعض يقف على جبهتين، جبهة هنا في موطن الغربة، لا ترى في الأجنبي إلا الجانب الذي تخشاه أكثر. ذلك المسلم الذي يخيفها ولا تفهمه.

وجبهة لدينا في العالم العربي، تريدنا أن ننسى إنسانيتنا، وتجمعنا في دار حرب، وتقول لنا إن الدين هو الهوية، وتلغي بذلك هويات مواطنيها من غير المسلمين.


وكلاهما يتفقان على أن هناك رؤية واحدة أسمها "نحن ضد الآخر".

أنا لا أنتمي لا لهذا و لا لذاك.


ولا أؤمن بتلك الرؤية.


رغم أنها تبقى إنسانية حتى النخاع في عنصريتها.

السبت، 17 أكتوبر 2009

لنقل "لا"

يكفي أن نقول "لا".

يكفينا أن نقوله لكي نكسر كمام الخوف، ذاك الذي وضعناه على أفواهنا بإرادتنا، ولجمنا به ألسنتا، لأننا نخشى أن نخالف المعتاد والمعروف والمألوف. نخشى أن نقول "لا" لأراء وتفسيرات تقتل عقولنا، ثم أرواحنا، ثم إنسانيتنا.

وأنا قررت أن أقول "لا"

"لا" لكل رأي وتفسير لا يتماشى مع المنطق والعقل، لكل نص يتعارض مع إنسانيتي وإنسانية غيري، ولكل فكر يقولبني في إطار يمتزج بالكره والعداء للأخر.

وأعرف ما تعنيه أداة النفي هذه، كما أدرك أبعادها ونتائجها... ومخاطرها. لكني أعرف أيضا، وكما قلت من قبل وسأقول من بعد إلى أبد الدهر، أن فيها خلاصنا.


يوم نكسر حاجز الخوف، سنفكر.

ويوم نفكر بحرية، سنتعامل مع واقعنا وأمراضه، بلا قيود تكبلنا، ولا أفكار تحيلنا إلى قرون مضت، وسنعالجها.

يومها نكون بشراً متمدناً قادراً على تطويع واقعه كما يشاء.
سأقول "لا" لمن يقول لي "إن لولي الأمر علي حق الطاعة والولاء"، وهو يدري أن ولي الأمر هذا قد أفسد في الأرض، وعاث فيها، وأنه منح نفسه وذريته حقوقاً ليست حقاً له، وأنه لم يتولَ الأمر بما يرضي حقوق من يتولاهم من المواطنين.

لم يتولاها بما يرضي الله.

سأقول "لا" لمن يقول لي" إن المرأة كائن ناقص، في العقل والدين". فأنا، وغيري من النساء ممن أتُيح لهن نعمتي العلم والاحترام، على قناعة باكتمال حواسنا ومداركنا، وبقدرتنا على تولي زمام حياتنا بأنفسنا، وعلى المساهمة أيضاً في حياة من حولنا.

تماماً كما سأقول "لا" لمن يقول لي "إن صلاة المرأة وهي حائض حرام"، ويزايد غيره قائلاً "بل إن صلاتها وهي حائض كفر".

بالله عليكم. أصلي لربي وأنا مؤمنة خاشعة، لكني أُخرج من ملة الإسلام عنوة بسبب بضع قطرات من دم تخرج مني في دورة طبيعية، هي من الحياة وللحياة أساساً.

ويقولون إني نجسة،

ويقولون إني غير طاهرة.

ألم أقل لكم إنها تفسيرات القرون الوسطى.

وسأقول "لا" لمن يقول لي "إن صلاتي في بيتي"، ويصر على فصلي عن الرجال إذا أحببت أن أصلي في جامع. فأنا أحلم بيوم أصلي فيه في جامعٍ حاسرة الرأس مع أخوتي من الرجال والنساء، نقف فيه كلنا أمام الله متساويين.

سأقول "لا" لمن يقول لي "إن الناس سواسية كأسنان المشط". ثم يتراجع بالقول "لكن الناس هنا هم المسلمون بالطبع". ثم يفصّل أكثر ويقول "لكن المسلمين هنا هم أهل السنة بالطبع"، ثم يزيد في التفصيل ويقول "بل هم في الواقع بعض فرق السنة بالطبع".


و"بالطبع" هذه تحتم علينا أن نقول لمن يقولها لنا "لا"، فما هو مؤكد "بالطبع"، هو أن قائلها ينتمي إلى فئة "العنصريين" بمرتبة الشرف.


ببساطة، سأقول "لا" لمن يقول لي "إن الرأي لا يخرج عن نطاق النص"، و"أن هناك افكاراً مقبولة وأخرى مرفوضة"، و"أن هناك جوانب لا يصح فيها أن نُعمل العقل"، و"أن نتاج الفكر البشري من كل الحضارات لا يعنيه كثيراً أو قليلاً"، وأن الفكر هو "فكر الله".


أقول له "لا"، لأني أدري أن ما يسميه ب"فكر الله" لا يزيد عن "فكر الإنسان"، وأني لذلك حرة،

حرة في أن أفكر، وأحلق بعقلي في كل جانب مقبول أو مرفوض، وأغرس خلاياه في تلك الجوانب المحظورة، وأختار من نتاج البشرية ما يلائمني، ثم أخلق لنفسي عالماً يتلائم مع بشريتي واحتياجي إلى الله.


وربما ستخلقين لنفسك، وتخلق أنت لنفسك، عالمين آخرين، قد يوجد فيه الله وقد لا يوجد. المسألة ليست مهمة كثيرة. ما هو مهم حقاً هو أن ندرك أن اختيارنا ليس فرضاً على غيرنا، وأننا في كل تنوعنا واختلافنا نعيش في خلية واحدة هدفها واحد: أن نكون مواطنين فيها على قدم المساواة.


ومن المستغرب بالطبع أن أكرر كلاماً سبقني إليه من قبل آخرون، وقالوه أيضاً، لكن قبل قرون بعيدة.


لكننا نعيش في زمن عادت فيه عقولنا العربية والإسلامية إلى الماضي، تعيش فيه، وتقهقرت معه.

فحق علي أن أذكر بما هو مفروض أن يكون بديهياً.

وحق علي لذلك أن أطالبكم: لنقل معاً "لا"!