الثلاثاء، 21 أبريل 2009

ياعيبتاه!

في الواقع تعجبت.
وأظنكم تعبتم من كثر تعجبي.
لكني، ككل مرة، أجد دوماً أن هناك ما يستدعي التعجب.
فتحملوا، وأستمعوا إلي!

ما الذي اثار تعجبي، تسألون؟
لا. لم تثر الضجة الدولية حول قانون العائلة الأفغاني تعجبي. تلك كانت ضرورية. ولذا احني لها رأسي إحتراماًَ.
بل التغطية المؤدبة التي اعقبتها في وسائل إعلامنا العربية.
كأننا نتحدث عن موضوع عجيب، غريب، لا نعرف له شبيهاً في منظومتنا القانونية. كأننا نتحدث عن واقع في كوكب بعيد. ولذلك، وككل مرة، أعود لأقول لكم، وماذا عن هنا؟

لمن لم يتابع الموضوع، إليكم خلفيته. الضجة اثيرت بعد توقيع الرئيس الأفغاني حامد كرازاي في نهاية شهر مارس الماضي على قانون للعائلة وضع خصيصاً لأقلية الهزارة الشيعية. يمنع قانون "شؤون الأسرة الافغانية" الزوجة من رفض إقامة علاقة جنسية مع زوجها، او مغادرة المنزل الزوجي، أو العمل، او التعلم، أو زيارة طبيب بدون الحصول على إذن من الزوج.

زوجة وزوج.
يفترض فيهما ان يعيشا على الحلوة والمرة، وأن يؤسسا لحياة مشتركة.
إحترام، محبة، مودة، وعشرة حسنة.
هكذا تصورت دوما مفهوم الزواج، رغم أن كل النماذج التي شاهدتها في حياتي،مع استثناءات قليلة، كانت تقول لي العكس.
ثم يأتي قانون، ويحول الزواج إلى مصيبة.
كارثة وحطت على رأس المرأة.
يحولها من إنسان إلى جارية.
جارية. جارية. جارية.
بضاعة متعة لها دور يتوجب عليها ان تقوم به، شاءت أم أبت.
يقول لها "إنسان؟ أي إنسان يامرة؟ أية مودة ومحبة وعشرة حسنة يامرة؟ ما أنت إلا جارية تسمع وتطيع. زوجك هو ربك. هو الله. إذا قال لك زوجك تعالي، هبي لنداءه. وإذا قال لك مارسي الجنس معي، اخلعي رداءك وافتحي ركبتيك، ثم اهمدي، وموتي.. كمداً".

لحسن الحظ أن الناشطات الأفغانيات والمنظمات الأفغانية لحقوق الإنسان تعلمن الدرس الذي ادركته كثير من الناشطات الحقوقيات في الاونة الآخيرة: "لا تصمتن! أرفعن اصواتكن، وطالبن بحقوقكن. الجأن إلى وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والإليكترونية، ولا تترددن في تسمية الأشياء بأسماءها. هل لاحظتن كيف أصبح الفايس بوك منبراً للكثير من النشاط الحقوقي العربي ؟ لو لم تلاحظن، انصحكن بفتح حساب فيه اليوم."

الناشطات الأفغانيات فعلن ذلك، رفعن اصواتهن، لم يلتفتن لصمت الحكومات الغربية اثناء مناقشة البرلمان للقانون، وواصلن إحتجاجهن، ثم لجأن إلى حملة دولية عبر الفايس بوك لفتت اخيراً انتباه وسائل الإعلام الدولية، والتي بدورها مارست ضغطاً بتساؤلاتها على الدول المانحة. نفس الدول التي كانت قبل ذلك صامتة.
فبدأت الدول المانحة، واحدة بعد الأخرى، ترفع صوتها محتجة. لسان حالها كان مستهجناً:"كيف يمكننا أن ندعم نظاماً يجيز إغتصاب الزوجة رسميا؟".
سبحان الله!
ألم يكن يجيز إغتصاب الزوجة رسميا قبل ذلك؟
ما علينا.
المهم انهم اضطروا إلى التحرك والإحتجاج. وبسبب ذلك الأحتجاج، لا غير، قرر الرئيس الأفغاني، أعادة النظر في القانون، معلنا أن وزير العدل "سيدرس تفاصيل كل بند بدقة"، مضيفاً "وإذا مثل اي بند مشكلة فإننا سنتخذ الإجراءات الضرورية بالتشاور مع العلماء".
جميل.

هذه هي خلفية الموضوع.
ما اثار تعجبي هو الطريقة التي مارست فيها وسائل الإعلام العربية تغطية مؤدبة للموضوع. بعضها حاول أن يغمز بأن القانون يتعلق بالأقلية الشيعية، ولذا، فالمسألة تتعلق بالمذهب الشيعي تحديداً. وهذا البعض عليه ان يخجل من نفسه، خاصة وأنه ادرى انه لا فرق كبير بين المذهبين الشيعي والسني عندما يتعلق الأمر بقوانين العائلة التي تحتكم إليها الدول العربية.
البعض الأخر، غطى الموضوع كأنه غير معني بها إطلاقاً. كأننا نتحدث عن قضية تتعلق بأهل المريخ، حسبهم الله ونعم الوكيل.
وسؤالي هنا تحديداً، هل القضية لا تعنينا بالفعل؟

دعوني أقدم لكم نماذج من قوانين العائلة العربية كي تدركون أن القضية تعنينا نحن أيضاً.
المادة 40 من قانون العائلة اليمني لعام 1992، يشير تحت بند "في العشرة الحسنة"، إلى أن "للزوج على الزوجة حق الطاعة فيما يحقق مصلحة الأسرة على الأخص فيما يلي: الإنتقال معه إلى منزل الزوجية؛ تمكينه منها صالحة للوطء المشروع في غير حضور احد؛ امتثال امره والقيام بعملها في بيت الزوجية مثل غيرها؛ عدم الخروج من منزل الزوجية إلا باذنه.."
قانون العائلة اليمني ينص أن على المرأة ان تطيع زوجها، وان هذه الطاعة تشمل الذهاب معه أينما ذهب، كأنها غير معنية بالموضوع، تمكينها من نفسها، اي ممارسة الجنس معه، أرادت ذلك ام لم ترد، والامتثال لأوامره، ثم القيام بعملها في بيت الزوجية، وأن لا تخرج من منزل الزوجية إلا إذا أذن لها!
كأنها أجيرة. اليس كذلك؟
القانون اليمني يقف على قمة الهرم هو والاحكام الشرعية الممارسة في المملكة العربية السعودية ( لا يوجد قانون للإحوال الشخصية في المملكة) عندما يتعلق بهذا الشأن.
وبعدهما تتدرج قوانين الأحوال الشخصية العربية (بأستثناء تونس والمغرب) في مدى قربها او بعدها من هذا النموذج المؤسس لدونية المرأة ودورها كجارية، لا كشريكة للحياة. فالزواج وفقا لهذه الرؤية ليس نظاماً يقوم على الأحترام، يتكون من فردين، يتمعتان بنفس القدر من الحقوق والواجبات.
لا حظوا أيضا أن قوانين الأحوال الشخصية للمواطنين في البلدان العربية ممن يدينون بالديانة المسيحية او اليهودية ليست افضل حالا، وإن كانت اقل حدة من نظيراتها الاسلامية (لم يفرض اي منها على المرأة ان تمارس الجنس مع زوجها غصبا عن انفها). لكن الجوهر، هو أن المسألة تتعلق برؤية ذكورية للإديان، أيا كانت، اسست لهيمنة الرجل في العلاقات الأسرية.
على سبيل المثال، المادة 46 من قانون الأحوال الشخصية للأرمن الارثوذكس في سوريا ولبنان تقول "الرجل هو رأس العائلة وممثلها القانوني والطبيعي، على الرجل أن يحمي زوجته وعلى المرأة ان تطيع زوجها".

أطيعي زوجك؟
لم لا يطيعني هو؟
هل يبدو الأمر مزعجا لو انقلبت الأية وأطاع الزوج زوجته؟ تخيلوا لو نص قانون الأحوال الشخصية اليمني على المادة التالية: "للزوجة على الزوج حق الطاعة، وعليه ان يلبي رغبتها الجنسية متى شاءت، وحبذا لو غسل المواعين قبل ذلك".
منطق غريب. يؤلم ويجرح في الواقع. اليس كذلك؟ لكنه غريب لو تعلق بالرجل أو المرأة على حد سواء. لا يؤمن بالشراكة والأحترام كأساس لعلاقة زواج إختيارية.
إختيارية.
أنا أختار ان اتزوج.
ليس قدراً ولعنة. وقد أختار ان لا أتزوج.
وعندما أختار الزواج أفعل ذلك كي اضيف شيئا إيجابيا إلى حياتي.
ليست بلية أو مصيبة.
ولكي لا تكون بلية او مصيبة، أدرك أني عندما أتزوج، أتزوج كإنسان، تماماً كزوجي، إنسان.
فردان. متساويان. محبان.
ما أجمل الواقع عندما يكون عادلاً.

"رومانسية حالمة". بعضكم يبتسم الآن.
لعلها كذلك.
لكنها تظل بديلا لرؤية تقول للمرأة أنها ليست إنسان. إمعة. مطية. يركبها الرجل متى شاء. وهي عليها أن تسمع وتطيع، وتبتسم فوق هذا.

إذن .
هل فهمتم سبب تعجبي؟
ما يحدث في أفغانستان يحدث لدينا اليوم.
في هذه اللحظة.
في هذه الثانية.
وهي ليست نصوص قوانين جامدة.
بل نعيشها واقعاً.
تضطر معها المرأة إلى قتل آدميتها كل ليلة في فراش الزوجية.
هل نسيتم بدور؟ لا تنسوها.
فحبذا لو صرخنا نحن أيضا، وطالبنا بتغيير قوانين الأحوال الشخصية العربية.
لإنها المفتاح إلى التغيير، لو كنتم تدركون!
يومكم سعيد.

السبت، 11 أبريل 2009

تراث التعددية!

صوتها هو أكثر ما يلفت انتباهي وانا أستمع إليها.
صوتها المندهش.
صوت أروى عثمان.
يندهش دوماً كلما طرحت عليها السؤال ذاته. مرتان، مرة في زيارتي الميدانية إلى اليمن عام 2006، ومرة في حديثنا الأخير عبر الهاتف قبل اكثر من شهر.
أسألها: "ما سر كل حرصك هذا على جمع التراث اليمني؟" أسألها وأنا صادقة في حيرتي.

ستفهمون حيرتي عندما تدركون أن اروى عثمان إستثمرت كل ريال جنته بعرق جبينها في جمع الثراث اليمني.
بدأت في جمع موزاييك المقتنيات والازياء الشعبية منذ اكثر من عشرين عاماً.
يوماً بعد يوم، سنة بعد سنة.
كانت تسافر من منطقة إلى اخرى في ارجاء اليمن، من قرية إلى قرية، على حسابها الشخصي، وتجمع، وتجمع، وتدفع من جيبها، وهمُها ان تقتني نماذج من التراث اليمني.

لم تفكر يوماً في أن تدخر مبلغاً لنفسها أو لبنتيها، لم تفكر يوماً ان تشتري لنفسها سيارة، شقة، أو بيتاً، اكتفت باستئجار شقة تبحث فيه عن شرفة تحتسي فيه قهوتها المرة. آه ما اصعب الإنسان عندما يؤمن بهدفه.
الحقيقة أنها لم تفكر إلا في جمع ذلك التراث. ونجحت فعلاً عندما أسست بيت التراث الشعبي، فَخُرها، الذي ارادت أن تحوله إلى متحف شعبي، ولم تندم، رغم غصتها.

"لم كل هذا الحرص على جمع التراث ياأروى؟"
أروى عثمان، الكاتبة، الباحثة، والأديبة. رائدة نسائية يمنية.
"طريقك كان سيكون سهلا لو اخترت مهمة ايسر، لو تحولت إلى هدف اخر.. لو؟"
وهي؟
هي تنظر إلى محدثتها، ودهشتها تسيل من صوتها.
ترد: "تصدقي اني عندما اُسأل هذا السؤال لا أعرف الأجابة. لكن مع الوقت بدأت افهم."

أتذكرون يوم قلتُ يوماً أن "الأسود أصبح لونَ الحياة"؟
تحول إلى السواد مع إنتشار مد الإسلام السياسي، بأطيافه السنية والشيعية. الأسود ينتشر، يكرة الآلوان، يكرة التنوع، ويصر على لون واحد، واحد واحد لا طعم له، يدعو إلى الموت فيتحول إلى الحياة، ويقتلها، ويناشد الإنسان أن ينحر روحه، وعيناه منبهرتان.

وأروى عثمان أنتبهت. أنتبهت إلى أن ألوان التراث اليمني بدأت تختفي.
تقول: " عرفت حينها الجواب على السؤال ‘لماذا؟’ انا نشات وتربيت في منطقة في تعز بالقرب من سوق الصميل، منطقة تراثية، كان فيه دائما كرنفال من الأزياء والرقص والموالد والنساء. كرنفال من الألوان. ومع الوقت بدأت الاحظ أنها تختفي، تذوب، وتتراجع. وتساءلت لم بدأت الورود تختفي؟ فأصبح مثل الهم".
وهمُها اصبح هدفها.
تقول:" اريد أن يرى العالم ألوان تراثنا الزاهية. أريده ان يرى أننا كنا دوماً نحب الحياة، نحبها والوانها المتعددة".
ولأنها أدركت ذلك، لم يكن غريبا أن تتحول هدفاً للهجوم ممن يدعو إلى السواد.

كان طبيعياً ايضاً ان تتعرض للتهديد من سلفيين غاضبين عندما تمكنت في عام 2005 من إنجاز أولى فعاليات بيت الموروث الشعبي في مهرجان المدرهة (الأرجوحة)، تقاليد الحجيج، تقاليد تكاد تندثر، تحتفي بالحجاج بالغناء والأهازيج والمدرهة (الأرجوحة)، ويشترك فيها الرجال والنساء والأطفال معاً.
كنا نغني معاً، لم نر في ذلك جَرحاً في ديننا.
نرتدي ازيائنا الشعبية الملونة، لم نر في ذلك جرحاً في إيماننا.
وكنا نحتفل معا، رجالا ونساء، ولم نر في ذلك هتكا لأعراضنا.
كيف غابت ذاكرتنا؟ ثم كيف زالت الألوان، فأصبح الأسود لون الحياة؟

بيت الموروث الشعبي بقي الدليل على أن التراث اليمني كان دائما ملوناً، متعدداً، محباً للحياة. كان الشاهد. وأروى عثمان نجحت في أن تجعله قبلة للسياح، وتحوله في الوقت ذاته إلى مؤسسة بحثية تعنى بأنتاج الدراسات والبحوث عن التراث والفلكلور والثقافة الشعبية.

ولذا كانت لوعتها فاجعة وهي ترى بيت التراث يختنق أمام عينيها، فالبيت الذي وجدته بعد جهد جهيد، بدأ يتهالك بسبب موقعه المطل على مذابح سوق القاع، محاصر بأكداس القمامة من الأمام، وروائح الذبائح من مواشي ودجاج وأسماك من الخلف، ومهاجم من فئران انتشرت من بيت مهجور قريب.
فاجعة.
الشاهد الحي على تراث يكاد ينقرض، تكالبت عليه القوارض.
فكرت في أن تغلقه أكثر من مرة، بسبب الظروف المادية الصعبة وشحة مواردها.
لكن قلبها لم يطاوعها. فتبحث عن الريال، تجمعه، كي تضعه في البيت من جديد. قربة مخرومة. تحتاج إلى دعم حكومي وغير حكومي.
الدعم الحكومي جاء والحمدلله اخيراً. فشكرا للدعم.
لعله ينصفها.
لعله يمُكنها من أن تجسد حلمها واقعاً إلى متحف عريق يحفظ ذاكرتنا.
ليته يفعل.
فحلمها مرآة لذاكرتنا.
كي لاننسى أننا يوماً كنا نحب الحياة..
ونعشق اطياف الوانها.

الاثنين، 6 أبريل 2009

حذار من التفكير!

الغريب أننا لم ننزعج، أو نرى سبباً للقلق. وأن القرار صيغ ثم صوت عليه، ونحن نتفرج.
والأغرب أننا لم نصرخ. وأن غيرنا لم يجد حرجاً في ان يشيح بوجهه. ككل مرة.
أما الفضيحة فهي ان من صوت على القرار يفترض فيه ان يدافع عن حقوق الإنسان!

القرار الذي اعنيه هو الصادر بتاريخ 27 مارس 2009 عن مجلس حقوق الإنسان في جلسته الاربعين، بعنوان "محاربة إهانة الأديان"، والذي تمكنت 21 دولة (منها دول عربية على رأسها مصر والسعودية وقطر والأردن، واخرى أسيوية مسلمة مثل ماليزيا وإندونيسيا وبنغلاديش والباكستان، وبدعم من جنوب إفريقيا والصين وروسيا) من تمريره رغم معارضة عشرة دول، معظمها دول معروفة بأحترامها لحرية الرأى والعقيدة ككندا وسويسرا وبريطانيا، وامتناع 14 دولة عن التصويت.

أنقسم المجلس، وفي أنقسامه مؤشر على خطورة الموضوع، لكن الدول الإسلامية والصين وروسيا، وهي دول لها جميعاً سجل معروف في انتهاك حقوق الإنسان، تمكنت من إخراجه رغماً عن البقية.

ما الذي قاله مجلس حقوق الإنسان إذن في قراره؟ عبر المجلس عن "قلقه العميق من تزايد وتيرة حملات إهانة الأديان والتنميط الديني للأقليات المسلمة بعد احداث الحادي عشر من سبتمبر المأساوية"، في اشارة واضحة إلى رسوم الكاريكاتير الدانماركية للرسول محمد، وإلى إحساس الإقليات المهاجرة ممن تنتمي إلى الدين الإسلامي (خاصة في أوروبا) بأنها "تحت المراقبة" بسبب إنتمائها الديني.

ثم أكد على "أن احترام كل الأديان وحمايتها من الإهانة هو عنصر اساسي ضروري لممارسة حرية التعبير عن الفكر والعقيدة والدين"، وزاد على ذلك بأن شدد على أن "حرية التعبير عن الرأي وممارستها تحمل في طياتها مسؤوليات وواجبات ولذلك يمكن ان تكون عرضة لبعض القيود، المقننة والضروية لحماية حقوق وسمعة الأخر أو لحماية الأمن الوطني أو النظام العام أو الصحة العامة او الأخلاق".

مجلس يفترض فيه أنه يدافع عن حقوق الإنسان، يخرج علينا بقرار يدعو فيه صراحة إلى تقييد حق التعبير عن الرأي! والأدهى انه استخدم نفس اللغة التي تستخدمها دولنا العربية العزيزة في تكميم افواهنا وعقولنا، بدعوى "حماية الأمن الوطني، او النظام العام، او الصحة العامة (لم افهم موضوع الصحة هذه) او الأخلاق"!

ماذا ترك المجلس لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذن؟

أن تشتكي الاقليات المهاجرة من مسألة تنميطها في أوروبا امر افهمه. فأحداث الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية حولتها فجأة إلى أقليات "مسلمة" بعد ان كانت "عربية" "بلقانية" "تركية" أو "باكستانية". فجأة اصبحنا جميعاً "مسلمين". وهذا التصنيف افرح كثيرا الأسلاميين المقيمين في اوروبا، وهم كثر على فكرة. أفرحهم لأنهم أدركوا ان امامهم فرصة يمكن أن يستغلوها، فمادامت الهوية اصبحت "إسلامية"، فليدفعوا إذن بمطالبهم "الإسلامية"، حماية لل"أقلية المسلمة".

ومطالبهم كانت ولازالت مدروسة بدقة، تماما كما فعلوا في الدول العربية والآسيوية. تنطلق من رغبة في تغيير مجتمعي تدريجي، وهدفها استراتيجي بعيد المدى: "دعونا نركز على مسألة تثقيف النشء الصغير المهاجر وتعليمه اصول دينه"، وهذه الأصول لا تخرج إلا من منظور حسن البنا وإبن تيمية للدين، تدعوه إلى كره الغير، وتغييب وجود المرأة، ثم تؤكد له أن احترام الرأي الأخر ثم الإختلاف كفر صريح.

إذن ان تشتكي الأقليات المهاجرة من مسألة تنميطها أمر افهمه، خاصة وأنه امر يصب في مصلحة الإسلاميين أولا وآخراً.

لكني ادعوها بدلا من الشكوى إلى أن تكف عن الشكوي وتمثيل دور الضحية، وأن تقف موقفاً واضحاً من هؤلاء الإسلاميين، ومطالبهم.

كفوا عن النواح والنحيب.
كفوا عن الشكوى.
ثم خذوا موقفاً.
أتخذوا قراراً!
في صف من تقفون؟

وعندما يتعلق الأمر بالدعوة إلى العنف، بما يسميه الإسلاميون "الجهاد"، علينا أيضا أن نأخذ موقفاً واضحاً لا لبس فيه.

موقفاً يسمي الأشياء بأسمائها:
الجهاد أدعوه إرهاب.
لأنه أعزائي إرهاب.
لا أؤمن بالعنف أياً كان مبرره. وأرفضه. ثم أخذ موقفاً واضحاً منه. وأصر ان لا دين يحترم نفسه يمكن أن يتخذ من العنف كياناً له. ولا اخجل من قول ذلك في وجه من يدعو إليه.
لأنهم عزيزاتي يعتمدون كثيراً على صمتنا.
يعتمدون كثيراً على صمتنا.
فلا تصمتي.
ثم لاتصمت.
ارفع صوتك،
ثم سمي الأشياء بأسمائها.

ثم فليكن كل منكما عضوا فاعلاً في هذا المجتمع.

لست ضيفة في وطني سويسرا.
لست ضيفة فيه.
أعمل فيه، وأعمل، كالنحلة، كي أكون شيئا.
لاأعتمد على نظام الضمان الإجتماعي فيه كما يفعل البعض من المهاجرين، يرون فيه بقرة حلوب، يحلبونها ويمتصون حليبها، ثم لا يخجلون وهم يشتكون!
جزء منه، أنا، وفاعل ايضاً.
مصلحته من مصلحتي، وولائي لهذا الوطن أولا وأخيراً.
فالوطن الديمقراطي الذي يحترم حقوق الإنسان والمرأة، الوطن الذي اتنفس فيه حرة، يستحق هذا الولاء.

هذا الشق الأول من قرار مجلس حقوق الإنسان، المنزعج من تنميط الأقلية "المسلمة"، يمكن الرد عليه.
الثاني هو الطامة.
الشق الثاني يقول لنا بالعامية "صحيح هناك حرية للتعبير، لكن يجب تقييدها حماية للمصلحة العامة. وتقييدها يصبح ضرورياً إذا استهدف الأديان"!
بعبارة اخرى، يحذر مجلس يسمي نفسه مدافعا عن حقوق الإنسان، يحذر الإنسان من "التفكير خارج دوائر التفكير الرسمية".
أية مصيبة هذه يارب؟

رسوم الكاريكاتير الدانماركية يعتبرها المجلس "إهانة للأديان".
وأنا لا اعتبرها سوى تعبيراً عن رأي رسام لم يسمع في العقدين الأخيرين سوى دوي قنابل يفجرها أشخاص يبررون ما يفعلونه بدينهم الإسلامي. هل نلومه هو، أم هم؟
أن يرسم الرسام قنبلة على عمامة الرسول الكريم أمر قد يجرح فعلاً المشاعر الدينية للكثيرين. لكن حرية التعبير تتضمن هذا الحق ايضاً.
الحق في قول الأشياء بلا مواربة كما يراها حتى لو كانت طريقته جارحة. والرد عليه لا يكون بتقييد هذا الحق، الرد عليه لايكون بتهديده بالقتل، بل بالرأي والكلمة.

لاحظوا أن الدول التي تبنت القرار كلها معروفة بانتهاكها لحق الإنسان في التعبير عن الرأي. وهي تفعل ذلك بشكل منهجي منظم. تفعله لأنها تدرك جيداً أن فتح الباب للتعبير عن الرأي سيؤدي حتماً إلى قلب أنظمتها السياسية. لأننا أذا تحدثنا كما نفكر، لن ننسى أن نستهدفها بسهامنا، وأن نضغط باصابعنا على موضع الجرح، وهي اصله. من هنا يأتي إصرارها على إستهداف حرية التعبير والتفكير.

ولأنها كذلك فإنها تصر على ان هناك دوائر مغلقة للتفكير تتصل بثلاث جوانب اساسية، الدين والمرأة والسياسة. جوانب هي المنطلق الأول لأي إصلاح جوهري نتمناه لمجمعاتنا.

إهانة الأديان ستصبح اليوم البعبع الذي يخيفوننا به كي نكف عن التشكيك في الإسلام الرسمي للدولة، والإسلام السياسي للحركات الإسلامية، والإسلام الكلاسيكي الارثوذكسي السائد منذ القرن الحادي عشر.

إهانة الأديان ستصبح الشماعة التي تمنع الباحثين من كسر دوائر التفكير المغلقة واقتحام مجالات يقولون لنا إلى اليوم إنه من
المستحيل التفكير فيها، أهمها طبيعة النص القرآني الكريم.
أتعرفون لماذا؟
عندما نبدأ في إثارة علامات الإستفهام على طريقة جمع النص القرآني، وكيف تمت، ومن قام بها، سنبدأ ايضاً في إثارة التساؤلات عن مدى إلزامية ايات قرآنية تدعونا إلى "طاعة ولي الأمر"!
أليس كذلك؟

"حذار، حذار من التفكير!"
هذا لسان حال الدول "المنتهكة لحقوق الإنسان" في مجلس حقوق الإنسان.
ولأنها معروفة بسجلها فقد جاء قرارها مضحكا ومخزياً في آن واحد.
لكنها تخطيء كثيراً.
تخطيء إذا ظنت انها قادرة على تقييد التفكير.
كل ما عليها فعله هو ان تنظر إلى نموذج الإتحاد السوفيتي.
كيف انهار في لحظة كبرج من رمل.
أنهار بسبب قلة من افراد.
قلةٌ فكرت... ولم تخف.