الثلاثاء، 22 ديسمبر 2009

من يخشَ نصر أبو زيد؟

"من الذي يملك أوطاننا؟"
تساءل مفكرنا الجليل نصر حامد أبو زيد. وكاد ان يكون مندهشاً.
فهل اندهشتم؟

وأنا لن اردد السؤال من بعده. ولن أسأل. فالجواب نعرفه، أنتم وأنا. أمام أعينكم. فهل رأيتوه؟

ولإن لكل سؤال مقدمة، دعوني أقص عليكم الحكاية من بدايتها. بعدها إطرحوا السؤال على أنفسكم، لكن في صيغة أخرى. أسالوا أنفسكم: من يخش نصر أبو زيد إلى هذا الحد؟ وحينها ستفهمون.

البداية تعرفوها. خبر سمعتوه، بعد أن كررتها وسائل الإعلام: منعت سلطات الأمن الكويتية يوم الأثنين الموافق 15 ديسمبر مفكرنا الجليل نصر حامد أبو زيد من دخول الكويت. كان مدعواً من قبل مركز الحوار للثقافة (تنوير) والجمعية الثقافية الأجتماعية النسائية ليلقي محاضرتين عن "الإصلاح الديني في الدولة الدستورية" و عن "قضايا المرأة بين آفق القرآن والفكر الفقهي".
كان مقررأ ان يحاضر. فمنعوه.
منعوه رغم أن وزارة الداخلية الكويتية منحته تأشيرة دخول.
ولأن التأشيرة كانت على جواز سفره، سافر وهو مطمئن. ظن أنه يتعامل مع دولة ذات مؤسسات. وكنا نظن الكويت كذلك. لكن ظنه خاب عند وصوله إلى مطار الكويت.

لماذا منعوه؟
قالوا "منعناه حماية له". قالوا إن الحكومة الكويتية، التي وفرت الحماية للرئيس الأمريكي السابق بوش بجدارة، غير قادرة على توفير الحماية الأمنية للمفكر المصري. وذّكروا بفتوى إهدار دمه الشهيرة. خافوا أن يتعرض لمحاولة إغتيال!
هل إبتسمتم؟ انا ايضا كدت ابتسم.
فالمذهل حقاً، ان من ردد هذا العذر (الذي لن اصفه)، توقع ان نصدقه.
كالنعامة تدفن رأسها في التراب وتنسى أن تغطي مؤخرتها. اليست كبيرة؟ المؤخرة، لا النعامة.

وصمتوا عن الجعجعة التي اثارها إسلاميون كويتيون، ينسى المرء اسمائهم من فرط تشابهم في اللفظ والفكر. من فرط إصرارهم على إقصاء الأخر. أياً كان هذا الأخر.
وصفوا مفكر القرن الواحد والعشرين ب"الزنديق"، و"الكافر"، و"الملحد". وكلهم، اراهنكن، لم يقرأوا سطراً من كتبه. أعتمدوا على السمع. "طوبى للعقلاء، وغفر الله للببغاوات"، على حد قول مفكرنا الجليل.
لكن ألفاظهم كما ترون تتناسب مع فكرهم، وتعكس ببساطة متناهية رؤيتهم للعالم. ولذا، إسمعوني جيداً، لم يكن غريباً ان يصفوه هكذا. هل إنتبهتم؟ موقفهم لم يكن غريباً. هم إسلاميون، وفكرهم متطرف. هل نتوقع منهم أن يلاقوه بالأحضان والزهور؟
ولأن الأمر كذلك، فإن دعوتهم إلى منعه أيضا طبيعية.
هم يرون فيه عدواً. عدواً تمكن بجدارة من تعرية خطابهم الديني.
فمفكرنا عندما قال إن "النصوص الدينية تأنسنت منذ تجسدت في التاريخ واللغة وتوجهت بمنطوقها ومدلولها إلى البشر"، لم يفعل اكثر من أن سحب البساط من تحت اقدام هؤلاء الذي يعتاشون على ويرتزقون من الخطاب الديني، بعد أن حولوا النصوص إلى صنم يعبدوه.
لذا، أكرر، لم يكن موقفهم مفاجئاً. بل كان طبيعياً، بتماشى مع نسق فكرهم.

السؤال الذي يجب طرحه هو: إذا كان من الطبيعي ان يطالب إٍسلاميون بمنع دخول نصر أبو زيد إلى الكويت، فهل كانت إستجابة السلطات الحكومية لهذا الطلب مفاجئة؟
بعضكم سيرد بنعم، ويذكر بأن نفس هذه الجهات الحكومية سمحت بدخول المفكر محمد أركون الكويت العام الماضي.
وتحديداً هذه المقارنة بين نصرحامد أبو زيد ومحمد أركون هي التي تفسر التفاوت في موقف السلطة. وهي التي تظهر في الواقع أن منع دخول ابو زيد لا يجب أن يكون مفاجئاً، بل يتماشى هو الأخر مع طبيعة أنظمتنا الحاكمة.

المفكر الكبير محمد أركون كان ولازال مهموماً بدراسة النص الديني، والقرآن تحديداً، دراسة علمية، وبصورة نقدية تفكيكية، مستخدما في ذلك مناهج بحث علمية حديثة. تماماً كمفكرنا أبو زيد.
لكن الدكتور نصر حامد أبو زيد قرر في الوقت ذاته ان يعري المدلولات السياسية لتفكيك الخطاب الديني، معبراً عن إستقلاليته كمفكر ومثقف.
قرر أن لا يصمت عن الزواج القائم بين خطاب السلطة السياسية والخطاب الديني. قال ببساطة إنهما وجهان لعملة واحدة. كل يعتمد على الأخر، وكل يستمد بقاءه من الآخر.

هل نسيتم ما قاله في نقد الخطاب الديني؟
"إن دعوى إحتكار الحقائق، وما يترتب عليها من دعوى إحتكار القرار، تمثل الأساس النظري لمفهوم الحاكمية الديني، ولا يكتفي الخطاب السياسي بهذه الدعوى الخطيرة، بل يقرنها بدعوة لا تقل عنها خطورة من حيث قيام مفهوم الحاكمية عليها، تلك دعوى الصواب الدائم وعدم إقتراف أي خطأ. وتتبدى هذه الدعوى واضحة في تحميل الخطاب السياسي كل اوجه القصور والعجز في سياساته، بل وكل أزمات الواقع ومشكلاته، على أكتاف المواطن العادي..."

بكلمات بسيطة، لم يكتف نصر أبو زيد بنقد الإسلاميين، وتعرية خطابهم، بل إنتقد أيضا السلطة السياسية التي تعتمد على هذا الخطاب في تبرير بقائها حتى وهي تحارب الإسلاميين.
وهو ما يعني بداهة، أن أي حديث عن إصلاح ديني نسعى إليه في أوطاننا لا معنى له دون إصلاح سياسي مرادف له.
الأثنان يأتيان معاً.

نصر أبو زيد لم يمسك العصا من الوسط. وضع إصبعه على الداء، ووصف الدواء في الوقت ذاته.
ولأنه كذلك كان خطرأً، ليس فقط على الإسلاميين، الذين جعجعوا لغطاً، بل على السلطة التي منحته التأشيرة ثم أدركت أن محاضرة تجمع في عنوانها "الإصلاح الديني" "والدولة الدستورية"، ستعري عورتها. فغيرت رأيها.

لم يكن موقف السلطات الكويتية مفاجئاً.
تماماً كموقف الإسلاميين وحناجرهم الزاعقة.
في الواقع، المفاجأة الوحيدة والسارة، كانت في الموقف الملتزم المتحدي الراقي لمنظمي الندوة، الذي أصروا على عقد الندوة في وقتها، وأتصلوا بالمفكر نصر أبو زيد، الذي القى محاضرته على مدى ساعة كاملة. لسان حالهم:"حتى لو منعتوه من دخول الكويت، فصوته، ومعه فكره، معنا!"
إصرارهم وإصرارهن أظهر أن الأمل في الإصلاح قائم.
وإن الإنسان في أوطاننا هو حامل شعلة هذا الأمل.
فالإنسان، لا تنسوا، هو الحل.
الإنسان.

إلهام مانع

الاثنين، 21 ديسمبر 2009

دعوة من جديد

أعزائي وعزيزاتي

تجدون طي هذا الوصلة إلى كافة مقالاتي الخاصة بيوميات إمرأة عربية.
لن اعيد نشرها على مدونتي.
فأنا سأبدأ بعد إسبوعين سلسلة جديدة تحت عنوان من أجل إسلام إنساني.
تابعوني بعدها.
محبتي،
إلهام

http://www.metransparent.com/old/authors/arabic/elham_manea.htmhttp://www.metransparent.com/old/authors/arabic/elham_manea.htm

الخميس، 3 ديسمبر 2009

ماذا حدث في سويسرا؟

بالطبع اشعر بالأحباط.
ولعلي كدت أبكي. فما اصعب الخيبة، وأنت تراها تتجلى أمام عينيك.
لكني عدت اقول من جديد، الإنسان هو الإنسان، في قوته وضعفه، في الخير الذي فيه، تماما كما في خوفه وتحيزه.
هنا، أو هناك، لا فرق.
ولأن الأمر كذلك، قلت لنفسي: "كان لزاماً الإصرار والتمسك بقوة بمبدأ عالمية حقوق الإنسان"!

ماذا حدث إذن في سويسرا الأحد يوم التاسع والعشرين من نوفمبر الماضي؟
صّوت الشعب السويسري بأغلبية نسبية، نحو 57%، على مبادرة شعبية تقضي بحظر بناء المآذن.
من المهم التأكيد هنا أن الحظر يطال المآذن فقط، ولا يمس حرية العقيدة، وممارسة المسلمين لشعائرهم أو تنظيمهم لأنفسهم في منظمات أو جمعيات. ومن المهم أيضا التذكير، بأن الحكومة السويسرية كانت أول من أعرب عن اسفها العميق لنتيجة هذه المبادرة، التي وصفتها من قبل بأنها ستمثل إنتهاكاً لحقوق أقلية دينية. ومن المهم أيضا القول، أن القوى السياسية الكبرى، بإستثناء حزب الشعب السويسري اليميني المتطرف، اصيبت بصدمة لنتيجة الأستفتاء وادانته.
كل هذا لا ينفي أن ما حدث يعد تمييزاً واضحاً ضد أقلية دينية، هي أقلية مسلمة هذه المرة. فلو أن الحظر استهدف كل الرموز الدينية لكل الأديان، ما كنت سأنزعج. لكنه هنا استهدف اقلية واحدة، ولذلك كان تمييزاً.
حدثٌ مذهل، لأننا ببساطة لم نتوقعه.
توقعنا ان تأتي النتيجة متقاربة، ولكن برفض يتماشي مع العقلانية السويسرية وتسامحها.
لكن هذا لم يحدث.
ما حدث هو ان اليمين المتطرف نجح في إثارة مخاوف الشعب السويسري بصورة دفعته إلى إتخاذ قرار يتناقض مع مباديء الدولة التي ينتمي إليها.
الخوف مم؟ تتساءلون؟
خلط اليمين المتطرف بين قضايا ثلاث جمعها في سلة واحدة رمز لها بالمآذن.
الخوف من إسلام سياسي إصولي متطرف، سيكون من الغباء القول إنه غير متواجد.
والخوف من عادات وممارسات تنتهك حقوق المرأة تتواجد لدى شريحة من المهاجرين من بلدان إسلامية، على رأسها إكراة الفتيات على الزواج، عادة الختان، ومنع الفتيات من المشاركة في بعض الصفوف الدراسية، خاصة السباحة ومادة الثقافة الجنسية، بحجة الخصوصية الثقافية.
والخوف من عولمة غيرت من التركيبة السكانية لسويسرا في وتيرة تنقطع معها الأنفاس. عشرون في المائة من السكان اليوم هم من الأجانب والمهاجرين.
الخوف. ممزوجاً. لا يفرق بين مشكلة إسلام سياسي تجب مواجهته، ومشاكل إندماج تجب معالجتها بصرامة، وتغيير أصاب العالم بأسرة، فسويسرا ليست جزيرة منعزلة عنه.
لعب اليمين المتطرف على هذه المخاوف جيداً، وبصورة خلط فيها بين الأوراق ففزعت اغلبية، وصوتت كما صوتت. ياللخيبة.
-----
لكن بعض رموز الجالية المسلمة ساعدت اليمين المتطرف كثيراًُ في تغذية هذه المخاوف، بسبب بعض مواقفها.
تصرفت كما لو كانت ضيفة في هذا المجتمع.
اعتبر بعض زعماء الجالية المسلمة، او على الأقل من يقولون إنهم يتحدثون بإسمها، ان المبادرة الداعية إلى حظر المآذن شأن سياسي، وأنهم لذلك كجماعة دينية لن يتدخلوا فيها!
كانهم يعيشون في المريخ، ولاعلاقة لهم بالموضوع.

كما لم يأخذوا هذه المخاوف بعين الجدية.
إثنان من ابرز قادتهم أصرا على أنه على حد علمهما لا وجود لإسلام سياسي متطرف في سويسرا! حقاً؟
يقولان ذلك رغم أن تقارير مخابراتية وصحافية أظهرت العكس. نعم هناك وجود لإسلام متطرف، لكنه يظل محصوراً في أقلية. إنكار وجوده لن يساهم إلا في تغذية المخاوف. لأن الكذب يظل كذباً. حتى لو كان هدفه تحسين صورة جالية.
أتساءل، لم يصعب علينا أخذ موقفاً حاسماً رافضاً للحركات الإسلامية السياسية الإصولية، ويدين أهدافها؟ يرفضها دون أن يضيف جملة : "نعم نحن ضدها، ولكن..".
سؤال يتوجب عليهم الإجابة عليه.

الخوف الأعمق والأهم في رأيي ليس فقط من الأصولية المتطرفة، بل من تغيير مجتمعي لا يتفق مع مباديء هذا المجتمع وقيمه.
فالقشة التي قصمت ظهر البعير كانت في الموقف الذي اتخذه بعض هؤلاء تجاه رأي عبر عنه اكاديمي سويسري في بدايات هذا العام، أقترح فيه السماح للمسلمين بتطبيق بعض جوانب الشريعة الإسلامية في قوانينهم العائلية.
بدلاً من أن يأخذ هؤلاء موقفاً حاسماً واضحاً لا لبس فيه ضد هذا المقترح، عبر البعض عن إرتياحه للموضوع، وأخر اعتبر ان الوقت غير مناسب لطرحه، ليترك المجال مفتوحاً للتساؤل عما إذا كان يرغب في طرحه في المستقبل.
وكان من الضروري لنا نحن النساء المهاجرات القادمات من دول إسلامية أن نأخذ موقفاً حازماً يدين هذا التوجه ويبرز كيف سيؤدي إلى إنتهاكه لحقوق المرأة.
هل نهرب من جحيم كي ندخل في جحيم اخر بمحض إرادتنا؟
هذا الموضوع في رأيي كان القشة التي قسمت ظهر البعير.
هذه القشة هي التي تفسر أن نسبة كبيرة من المصوتين ضد المآذن كن من النساء السويسريات. فالسويسريات عانين كثيراً هنا كي يصلن إلى الحقوق التي وصلن إليها، لم يكن الأمر سهلاً بالنسبة لهن. وقد كافحن كثيرا حتى حصلن على حق التصويت، و تمكن من تغيير قانون عائلي عام 1988 كان يعطي للرجل الحق في السماح لزوجته بالعمل، وتقرير مكان إقامة أسرته.
وهن لسن على أستعداد للقبول بقوانين عائلية تعيد الساعة إلى الوراء، وتمحي تلك الحقوق التي اكتسبنها حتى لو كان الأمر لا يعنيهن.
ففي النهاية، التمييز إذا حدث سيحط على رأس النساء المهاجرات من دول إسلامية.

هناك خوف عميق لدى شرائح واسعة هنا في سويسرا. وخوفها الأكبر هو أن هؤلاء الذين يتحدثون بإسم الجالية الإسلامية، لديهم اجندة خفية، ويسعون لتغيير قوانين البلاد خطوة خطوة.
إلى يومنا هذا، لم يقف هؤلاء الذين يزعمون التحدث بإسم الجالية الإسلامية ويعلنون بوضوح رفضهم لتطبيق أي جانب من جوانب الشريعة الإسلامية، أوالإقرار بإنتهاكها لحقوق الإنسان والمرأة.
الخوف لن يزول إلا إذا تحدثنا بصدق، وأظهرنا وجوهنا كما هي. عساها تكون فعلاً كما يقولون.
لن يزول إلا إذا اقررنا أن هناك مشاكل جوهرية وحقيقية.
لا يسعنا ان ندفن رؤوسنا في الرمال ونقول الزواج بالأكراه لا يحدث في جاليتنا. 17 ألف حالة زواج قسري حدثت في سويسرا، وأغلبية كبيرة منها حدثت لدى مهاجرين من دول إسلامية. أن تحدث حالات زواج قهري لدى مهاجرين من أديان اخرى لا يعفينا من النظر إلى المشكلة والتعامل معها بجدية.
تماماً كما لا يسعنا تجاهل أن نسبة كبيرة من حوادث العنف يرتكبها شباب من الجيل الثاني أو الثالث من المهاجرين المسلمين. شباب ضائع بين عالمين، عائلاتهم تصر عليهم أن لا يندمجوا في مجتمعهم الجديد، تقول لهم أن يرفضوا ثقافته، ثم تفرض عليه عنفاً من نوع أخر، عندما تصر على تزويجه، شاباً كان أو شابة، غصباً عنه. وبعضنا يحيا في هذا البلد، في مجتمعات موازية، ينظر إليه على انه غريب، يتندر عليه وعلى ثقافته، وينظر إليه بعلو وتكبر. وأظن أن بعضنا من العرب يفهم ما أقوله جيداً.
هذه مشاكل موجودة.
إنكارها، ووصف من يطرحها على النقاش بأنه مصاب بالإسلامفوبيا لن يؤدي إلا إلى تعميق المخاوف الموجودة لدى شريحة كبيرة من الشعب السويسري.
مخاوف لم ندرك مدى عمقها إلا عندما جمع اليمين المتطرف كل هذه المشاكل ورماها في سلة واحدة، رمز لها بالمآذنة، وصوت عليها الشعب السويسري يوم الأحد الماضي.
-----
أقول هذا رغم أني متألمة؛
من نجاح هذا اليمين المتطرف من إستثمار هذا الخوف لدى قطاع واسع لدى الشعب السويسري.
و من أن هذا البلد الأمن الطيب، الذي حمل ولازال يحمل راية حماية حقوق الإنسان بجدارة، مُررت فيه مبادرة شعبية ستؤدي إلى تمييز ضد أقلية دينية.
لكنه كان درساً.
ذكرني بما آمنت به دوماً.
حقوق الإنسان عالمية.
ليست مرتبطة بثقافة دون أخرى.
هدفها حماية الإنسان من ضعف هذا الإنسان.
وهي ملزمة للدول العربية تماما كما انها ملزمة لسويسرا.
هنا أو هناك. لافرق.
إلهام مانع

الثلاثاء، 17 نوفمبر 2009

حملة الأربطة السوداء

الأسود لون الحياة، هل تذكرون؟
حياة إمرأة في شبة الجزيرة العربية.
حياة بلا ألوان، تغيب فيها البهجة، كما يُغيب الظلامُ النور.
حياة بلا حياة.
لا لون لا طعم لا رائحة. أية حياة حياتنا في شبة الجزيرة العربية؟
يقولون لها، للطفلة، للفتاة، للمرأة: "عيشي صاغرة، صامتة، مستكينة، متمسكنة، عيشي ثم أطيعي، وأياك أن تكوني.
"لا ترفعي صوتك، حذار من صوتك، خافي منه، كما تخافي من جسدك، إبلعي صوتك، فصوتك عورة، وحبذا لو قطعت لسانك كي لا نسمعه.
"عيشي بكماء، انت والخرس سواء، خرساء في وجودك، مكبوتة في كيانك، كأنك لا شيء، فتلة، بعوضة، قشة، او شيء،
شيء نفعل به ما نشاء، نحُركه، نرفعه، ننُزله، نُزوجه، نمارس معه الجنس غصباً، ونضربه، ثم نطلقه، أو نقتله نحراً وهو حي، او دفناً وهو ميت، و نلفه في سواد الخوف، سواد داخل سواد."
يكفنونها في سواد فكرهم ثم يناشدونها مبتهلين "حبذا لو دفنت نفسك حية!" ويهزون رأسهم معجبين. يالله، ما أغربهم.
"موتي. فحياتك موت".
وهي؟
هي لا تريد الصمت، تريد لسانها طويلاً، هل تسمعون، طويلاً، وتريد صوتها عالياً يفرقع بضحكاتها مرحاً. ولا تريد الموت والكفن، بل تريد الحياة، و تريد أن تحيا، تحيا بتعمد، كل لحظة، كل دقيقة، كل ثانية، تريدها حية، عامدة متعمدة، أن تحيا، كإنسان، له وجود، ويفخر بهذا الوجود. آه ما اجمل الحياة عندما نقدر على أن نعيشها.
لكنهم لا يأبهون لما تريد، بل يهمسون ليل نهار في إذنها : "أنت تابع، تابع، تابع، اسمعي واطيعي، ولا تجادلي، إياك وان تجادلي، فالجدل رجس من عمل الشيطان، اطيعي، وكوني نكرة."
ويقولون لها: "حذار حذار من جسدك، هو والشيطان رديفان، إلعنيه صباح مساء، ثم ضمديه بالسواد، واخفيه عن العيون كي لا تدنسه النظرات، ملعون ايها الجسد، ملعونة أنت ايضا يا من تحملين هذا الجسد، هذا الرجس، حبذا لو مسخت كيانك فأصبحت أنت والظلام سواداً".
شرنقة، يخنقونها بالسواد كي لا تتنفس، كي لا ترى، كي لا تفكر، كي لا تقرر، كي لا تكون إنساناً.
"وجودك مصيبة وكذلك جسدك، فحبذا لو اخترت السواد حياة، حياة بلا لون، لونها أسود!"
وهي؟
هي تحب هذا الجسد، وتريد أن تحياه هو الأخر، وتكره ان تكفنه، تريد ان تمزق تلك الأربطة والأقمشة السوداء من على جسدها، وتخُرجه ملوناً زاهياً، مبتسماً وفخوراً، من قال إن خلق الله فيه ما يخجل ويعيب؟ لاترى في كيانها الأنثوي جريمة، ثم لا تعتبر الجمال خطيئة، وتصر أن تفكر، تصر أن تقرر، تصر ان تختار، تصر ان تكون هي هي، لا أحد غيرها، ولي امرها، ولذا تتمرد. من قال إن التفكير خطيئة أيها البشر؟
لكنهم لا ييأسون، فيهسون من جديد "الله يقول إن السواد قدرك، الله يريد ان يدفنك حية، الله هو المذنب، فأقبلي بقراراه، الله"، وينظمون الحياة وفقاً لرؤيتهم هذه، يقولون ان الله هو الذي صاغها، الله هو الذي وضعها، ومن جادل حدُه السيف.
هل نلومها لو سمعت واصاغت ثم لبت واطاعت.
لكنها لا تصدق، أي والله لا تصدق. تُطيع قدراً وهي تقول: "آه كم من جرائم نرتكبها باسم الله؟" تحني رأسها قليلاً وهي تقول "من يصدق أن الله يقول هذا. رجال يقولون، ثم يقولون: الله هو الذي قال. أيُ رب يكون لو قال ذلك حقاً؟ ربٌ ظالم؟ سبحان الله ما أبجحهم".
الأسود لون حياتها. حياة بلا لون، حياة بلا إرادة.
لكن الأسود ايضا رمز للقوة، القوة لا غير.
رمز لقوتها. قوة المرأة عندما تتمرد.
قوة الصلد تخرج من صلب الصهد شهاباً.
لم اعرف لونا أقوى منه، يخرج لسانه لمن حوله ويقول ها أنا، كما أنا، لست لوناً، لكن هل من لون يغلبني؟ هل جربتم مرة مزج السواد بغيره من الألوان؟
قوي هو.
وقوته في تفرده.
كذلك إمرأتنا، إمرأتنا القوية.
تلك التي عندما تتمرد تُفزع من حولها، فيسارعون إلى خنقها وكتم انفاسها.
هل رأيتم كيف تمكنت الصحافية لبنى في السودان في إثارة ازمة تصدرت صحف العالم لأنها ببساطة رفضت ان تجاري قانوناً سخيفاً يمنع المرأة السودانية من إرتداء البنطال؟ لبني تمردت، وقالت لا. لم تفعل اكثر من أن استجمعت شجاعتها وقالت "لا"، قانون كهذا ينتهك ادميتي يجب أن يلُغي، فأصبحت مثلاً ونموذجاً. تمردت. ولم تخف.
وأمرأتنا القوية في السعودية فعلت الشي نفسه يوم التاسع من نوفمبر الجاري.
الكاتبة والناشطة وجيهة الحويدر وزميلاتها من الناشطات السعوديات قلن أيضاً "لا"، قلنها في ذكرى الأربعين إمرأة سعودية، الرائدات، اللاتي قررن في نفس اليوم قبل عشرين عاماً أن يمارسن حقاً طبيعيا تمارسه كل النساء في كل ارجاء العالم، قدن سيارتهن علناً في شوارع الرياض. ولأنهن جرأن، كان الثمن باهضا: قبُض عليهن، سحُبت جوازت سفرهن، وفقدن وظائفهن، والمخزي أن "أولياء امورهن" أضطروا أن يتعهدوا بأن تُحسن "نسائهن" السيرة بعد ذلك.
تلك الذكرى رمزية في دلالتها، لأنها تظهر واقع المرأة السعودية بصورة مختصرة: حتى لو كانت المرأة تنتمي إلى شريحة إجتماعية مثقفة أوأقتصادية مرتفعة، فإنها لحظة مواجهتها مع السلطات تتحول إلى "شيء يملكه رجل". رجل يتولى أمورها من يوم ولادتها إلى مماتها، رجل يقود سيارتها، رجل يزوجها، واخر يتزوجها، والشيء ينتقل من يد رجل إلى رجل أخر".
وجيهة الحويدر وزميلاتها قررن أن مثل هذا الوضع ينتهك ادميتهن، وتمردن. قلن ببساطة "لا"، وعبرن عن موقفهن بإسلوب سلمي كله حب. لم يفعلن اكثر من أن ارتدين اربطة سوداء حول رسغهن، وناشدن غيرهن وغيرهم ان يفعلوا الشيء نفسه. وعندما فعلن ذلك، كن يدركن أنهن بأسلوبهن السلمي إنما يخاطبن الإنسان في من حولهن، حتى لو كان ضدهن. تماما كما فعل غاندي، تماما كما فعل مارتن لوثر كنج.
لم يخفن من اللعن والشتائم، ذاك قدر من يجرؤ على المطالبة بالتغيير.
لم يدارين وجوههن في السواد.
بل رفعن ايديهن بالرباط الأسود.
حياة بلا لون، لونها اسود.
وقوة تخرج من رحم التمرد، رمزها الأسود.
كم منا يقدر على ما تفعله وجيهة وزميلاتها من الناشطات السعوديات؟
عن نفسي أرتديت رباطاً اسوداً، وارتديه إلى يومنا هذا، فالحملة بدأت في التاسع من نوفمبر الجاري، وهي مستمرة.
وابنتي، إبنة العاشرة، ارتدته أيضاً واقنعت زميلاتها في المدرسة، تلميذات سويسرات في الصف الرابع الأبتدائي، اقنعتهن ان يرتدين تلك الأربطة تضامناً مع اخواتهن في السعودية.
وأنا ادري أن ما أفعله رمزي مقابل ما تفعله وجيهة وزميلاتها من داخل المملكة.
لكن، تخيلوا لو ان كلا منا ارتدى رباطاً اسوداً تضامنا معهن، الن تصل الرسالة إلى صاحبها؟
أحلام يقظة؟ بعضكم يبتسم من جديد.
وأنا بدوري أبتسم، وارد: "نعم، لكن من حقنا أن نحلم".
إلهام مانع

الاثنين، 2 نوفمبر 2009

الكيل بمكيالين

نعيب على الولايات المتحدة أنها تكيل بمكيالين عندما يتعلق الأمر بإسرائيل.

وقولنا صحيح.

نعيب عليها .. وننفر،

ونزعق،

ونجعر بأصواتنا عالية، نشير بأصابعنا العشرة إليها، "أنظروا، هاهي تفعلها من جديد"، "الظالمة"، "الناكرة"، "المخادعة".

نعيب عليها وننسى أن نعيب على أنفسنا.

ألا نفعل الشيء نفسه؟

نكيل بمكيالين، وأحيانا بثلاثة وأربعة.

وعلى حين تُقدم الولايات المتحدة على هذا الفعل عندما يتعلق الأمر بأمن إسرائيل أو بمصالحها كقوة عظمى، فإننا في المقابل أتقنا فن خداع النفس بمناسبة وبلا مناسبة.

أصبح دمنا الذي يجري في عروقنا، والهواء الذي يملأ صدورنا،

أصبح المرآة التي نحدق إليها،

لأننا لا نطيق أن نرى أنفسنا كما هي.

لا نريد أن نراها.

نعيب على فرنسا أنها فرضت على طالبات المدارس من المسلمات خلع غطاء رؤوسهن، وننسى أن الأقليات الدينية لدينا تعاني الأمّرين من سلطان الدولة.

ما رأيكم لو تصفحتم التقارير السنوية لمنظمات حقوق الإنسان عن أوضاع الحرية الدينية في البلدان العربية؟

ستشيحون بأوجهكم، ثم تلعنون: "هاهي مؤامرة جديدة من منظمات الحقوق "الغربية". لكنكم تشدون في الوقت ذاته على أيدي هذه المنظمات "الملعونة"، يوم استماتت في الدفاع عن حقوق هذه الطالبات.

هل يستطيع أي مسلم أن يعلن تغيير ديانته دون أن يواجه عقوبة الإعدام؟ الإعدام لإنسان أراد أن يختار الدين الذي أراده!

أليس هذا حقه؟

ونقول "هذا شأننا". "ما لكم وشأننا".

ثم نلعن سنسفيل فرنسا "الفاجرة"، تلك التي أوهمتنا أنها مهد الحريات.


وهللنا.

هل نسيتم كي أذكركم؟

هللنا يوم فاحت فضيحة سجن أبو غريب.

وهي فضيحة بلا جدال.

لكنا شمتنا وفرحنا، كدنا نخرج من جلودنا ابتهاجاً، وصرخنا بأصوات نافرة "أنظروا ماذا فعلت تلك المدافعة عن حقوق الحريات في العالم"، "أنظروا كيف انتهكت حقوق العراقيين الغلابة.. العراقيين المساكين.. يا حسرة على العراقيين، يعانون الويل تحت ضيم المحتل".

وتناسينا ما فعله معصوم الذكر صدام حسين مع هؤلاء العراقيين. ختمنا على عقولنا ومسحنا شريط ذاكرتنا بأستيكة من العيار الثقيل.

كل فينة وأخرى تخرج علينا أنباء عن اكتشاف مقابر جماعية لهؤلاء العراقيين، نسمع، ونهز رؤوسنا مستنكرين، ثم نصمت.

نصفر، أو نغني، وربما نشخر، ثم نتمتم " دعونا من هذه التفاصيل. ما مضى قد مضى".


وقبل ذلك،ِ يوم كان لا زال جاثماً على قلوب العراقيين، كنا نسمع عن المذابح التي أرتكبها ضد الأكراد، كنا نسمع عن المساجين السياسيين الذين يسومون ألوان العذاب والتنكيل في سجونه، وكنا نسمع عن النساء التي تنتهك أعراضهن من قبل نخبة الرئيس صدام، نسمع عن كل ذلك، ونبرر له: "لا يمكن حكم بلد كالعراق إلا بالسيف والنار"، نقول ذلك ونحن نصفق له كالبلهاء، فرحين بالرجل الذي "صمد ووقف أمام الغرب".

نسينا ذلك، تماماً كما نسينا ملفات حقوق الإنسان لدينا في العالم العربي، تلك التي يندي لها الجبين. لكنها تلاشت فجأة من أذهاننا، كأنها كانت ضرباً من خيال، لم يعد لها وجود.

ولو جاء من يذكرنا همساً: "لكن أليس واقع سجوننا أسوأ مما كان حادثاً في سجن أبو غريب؟"

تخرج ألسنتا من أفواهنا محشرجة الصوت: "أمرك غريب، وهل تقارننا بها يا أخي؟"

لا يهم أن واقعنا أسوأ، لا يهم أن قيمة الإنسان لدينا لا تزيد عن ثمن بعوضة، لا يهم كل ذلك.

المهم هو إن نشفي غلنا في الولايات المتحدة، "تلك القوية الملعونة"، تلك التي "انتهكت حقوق الإنسان".


خداع الذات لدينا متعة، وفن.


نقول إن الإسلام واحد،

ثم نتأفف من الشيعة،

نمتعض منهم،

ونشيح بوجوهنا عنهم وعن "ممارساتهم"،

نمصمص شفاهنا كلما احتفلوا ب"شعائرهم"، ونقول بهّسٍ فحيح: "ليسوا مسلمين فعلاً، يكادوا أن يكونوا مشركين"!.

ثم ندني شفاهنا أكثر إلى أذاننا ونحن نوشوش أنفسنا "كانوا دائماً طابوراً خامساً يعين الفرس علينا".

نقول ذلك، وندير أعيننا مؤكدين إن الإسلام واحد.

لكننا لا نتألم كثيراً أو نتوجع لأوجاعهم.

لا نبكي مع الشعب العراقي كلما فجر إرهابي نفسه بين جموع من شيعة العراق.

هم "ليسوا بشراً فعلاً"، "ليسوا مثلنا"، "كما أنهم ليسوا منزعجين كثيراً من وجود ذلك المحتل البغيض"، "الخونة".

أليس هذا لسان حالنا؟

تخيلوا معي إذن كيف كانت ستكون ردة فعلنا لو أن ضحايا حادثة الجسر كانوا من السنة العرب؟ هل كنا سنصمت عن العزاء كما فعلت معظم الدول العربية، صمتت وهي تهرع في الوقت ذاته مهرولة إلى مواساة أميركا "المحتلة البغيضة" في ضحايا إعصار كاترينا؟


خداع الذات هي ورقة التوت، تلك التي نغطي بها عورتنا.

عورة الخجل من أنفسنا ومن واقعنا المزري، عورة الإحساس بالضآلة والضعف أمام "الآخر"، وعورة الخوف من أن نسمي الأشياء بأسمائها.

عورة لا نريد أن نراها.

ولذلك نلوذ بأصابعنا العشرة،

نرفعها في وجه "الآخر"،

نلعن سنسفيل أجداده،

ثم نتنهد.

الأحد، 25 أكتوبر 2009

دوائر الهوية

منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية، وأسئلة كثيرة تنهال علي هنا في موطن الهجرة سويسرا، من بعض السويسريين أنفسهم.

"أنت مسلمة"، كانوا يقولون، "لما لا تشاركيننا الرأي فيما يحدث من حولنا".

أو يقولون "كمسلمة، ما الذي يعنيه لك مقتل المخرج الهولندي فان جوخ، أو الهجمات الإرهابية التي استهدفت لندن.. الخ".

وفي كل مرة كنت اشعر بالرغبة في الصراخ.

في شد شعري، والزعيق في وجههم.


فالمشكلة التي كنت أواجهها في كل مرة يطرح علي مثل هذا السؤال "كمسلمة"، هو أني لم أعتبر نفسي يوماً "مسلمة"!

أليس من الغريب أن تفرض عليك هوية ما، ثم تجدها ملتصقة بجلدك، مكتوبة على جبهتك وأنت لا تدري؟

كوني "مسلمة" لا يزيد عن رؤية من يفرضها علي، لأنه لا يري في كياني المتواجد داخل مجتمعه سوى الجانب الديني منه. هذا رغم أني أحمل الجنسية السويسرية مثله، ولي نفس الحقوق والواجبات التي يتمتع بها محدثي.

وأنا بالتأكيد مكونة من هويات عديدة، لكن "المسلمة" منها ليست المحددة الأولى لطينتها.

هويتي تتداخل في دوائر متشابكة، ثلاث منها هي الأكثر وضوحاً. الدائرة الأوسع والأهم فيها هو كوني إنسانة.

إنسانة.

لا أقول هذا لأن وقع الكلمة جميل. ويعلم الله أن وقعها جميل، نلوك بها ألسننا ولا نعنيها في الكثير من الأحيان.

أقولها لأني أؤمن بها.


أؤمن أن الهدف الأسمى في الحياة هو حماية كرامة الإنسان.

هو أولا وأخيرا.

تماماً كما أنه هو الحل، الإنسان لا الإسلام.

وأن هناك قيم إنسانية تتجاوز اللون والجنس والدين، قيم تجعلني أنظر في عيني محدثي بغض النظر عن هويته، وأرى فيهما شيئاً غالياً، شيئاً نفيساً يستحق أن أحترمه وأجله.

تقف ضمن الدائرة الإنسانية دائرة الهوية العربية واضحة هي الأخرى.

لا أقول يمنية.
رغم أني أعتز بجذوري اليمنية، وأفخر بها.

بل أقول عربية.

عربية لأني ولدت في مصر، وفي عروقي تجري دماء مصرية أيضاً.


عربية لأني عشت في بلدان الوطن العربي، في مغربها ومشرقها وخليجها.

ولذلك تشربت بلغتها،

اللغة الهوية الأم،

أمي التي رضعت من حليبها.

وعشقت ثقافتها.

وتمثلتها نفساً أستنشقه كلما خنقتني الغربة.

لكن كل ذلك لم يجعلني عنصرية في محبتي لهويتي العربية. فقد عشت أيضاً في بلدان أخرى غير عربية، إسلامية وغربية.

والنتيجة التي خرجت بها من كثر الترحال أن البشر يتشابهون كثيراً. قد يختلفون في أنماط وأساليب حياتهم، في طرق التعبير عن ثقافتهم وهويتهم، في ألوانهم وألسنتهم، لكنهم في النهاية يحبون، ويكرهون، ويقلقون، وهم في العادة عنصريون.

أخيراً، تأتي دائرة انتمائي للإسلام. وهي دائرة خاصة للغاية، اخترتها اختيارا. فلو كنت ملحدة لقلت إني ملحدة.


لكني قررت أن أكون مسلمة.

فهذا من حقي، أن أؤمن بما أشاء.
ورغم قراري هذا، أحرص علي كينونتي المسلمة من العلانية، هي جانب حميم مني، فيها أعايش روحانيتي، وبها أشبع احتياجي إلى الله.

وهي في كل هذا تظل هوية خاصة، ليست شاملة، ولا أريدها أن تكون شاملة.

أنا كيان معقد، لست شيئاً مبسطاً كما قد يرغب البعض في تصويري.


وهذا البعض يقف على جبهتين، جبهة هنا في موطن الغربة، لا ترى في الأجنبي إلا الجانب الذي تخشاه أكثر. ذلك المسلم الذي يخيفها ولا تفهمه.

وجبهة لدينا في العالم العربي، تريدنا أن ننسى إنسانيتنا، وتجمعنا في دار حرب، وتقول لنا إن الدين هو الهوية، وتلغي بذلك هويات مواطنيها من غير المسلمين.


وكلاهما يتفقان على أن هناك رؤية واحدة أسمها "نحن ضد الآخر".

أنا لا أنتمي لا لهذا و لا لذاك.


ولا أؤمن بتلك الرؤية.


رغم أنها تبقى إنسانية حتى النخاع في عنصريتها.

السبت، 17 أكتوبر 2009

لنقل "لا"

يكفي أن نقول "لا".

يكفينا أن نقوله لكي نكسر كمام الخوف، ذاك الذي وضعناه على أفواهنا بإرادتنا، ولجمنا به ألسنتا، لأننا نخشى أن نخالف المعتاد والمعروف والمألوف. نخشى أن نقول "لا" لأراء وتفسيرات تقتل عقولنا، ثم أرواحنا، ثم إنسانيتنا.

وأنا قررت أن أقول "لا"

"لا" لكل رأي وتفسير لا يتماشى مع المنطق والعقل، لكل نص يتعارض مع إنسانيتي وإنسانية غيري، ولكل فكر يقولبني في إطار يمتزج بالكره والعداء للأخر.

وأعرف ما تعنيه أداة النفي هذه، كما أدرك أبعادها ونتائجها... ومخاطرها. لكني أعرف أيضا، وكما قلت من قبل وسأقول من بعد إلى أبد الدهر، أن فيها خلاصنا.


يوم نكسر حاجز الخوف، سنفكر.

ويوم نفكر بحرية، سنتعامل مع واقعنا وأمراضه، بلا قيود تكبلنا، ولا أفكار تحيلنا إلى قرون مضت، وسنعالجها.

يومها نكون بشراً متمدناً قادراً على تطويع واقعه كما يشاء.
سأقول "لا" لمن يقول لي "إن لولي الأمر علي حق الطاعة والولاء"، وهو يدري أن ولي الأمر هذا قد أفسد في الأرض، وعاث فيها، وأنه منح نفسه وذريته حقوقاً ليست حقاً له، وأنه لم يتولَ الأمر بما يرضي حقوق من يتولاهم من المواطنين.

لم يتولاها بما يرضي الله.

سأقول "لا" لمن يقول لي" إن المرأة كائن ناقص، في العقل والدين". فأنا، وغيري من النساء ممن أتُيح لهن نعمتي العلم والاحترام، على قناعة باكتمال حواسنا ومداركنا، وبقدرتنا على تولي زمام حياتنا بأنفسنا، وعلى المساهمة أيضاً في حياة من حولنا.

تماماً كما سأقول "لا" لمن يقول لي "إن صلاة المرأة وهي حائض حرام"، ويزايد غيره قائلاً "بل إن صلاتها وهي حائض كفر".

بالله عليكم. أصلي لربي وأنا مؤمنة خاشعة، لكني أُخرج من ملة الإسلام عنوة بسبب بضع قطرات من دم تخرج مني في دورة طبيعية، هي من الحياة وللحياة أساساً.

ويقولون إني نجسة،

ويقولون إني غير طاهرة.

ألم أقل لكم إنها تفسيرات القرون الوسطى.

وسأقول "لا" لمن يقول لي "إن صلاتي في بيتي"، ويصر على فصلي عن الرجال إذا أحببت أن أصلي في جامع. فأنا أحلم بيوم أصلي فيه في جامعٍ حاسرة الرأس مع أخوتي من الرجال والنساء، نقف فيه كلنا أمام الله متساويين.

سأقول "لا" لمن يقول لي "إن الناس سواسية كأسنان المشط". ثم يتراجع بالقول "لكن الناس هنا هم المسلمون بالطبع". ثم يفصّل أكثر ويقول "لكن المسلمين هنا هم أهل السنة بالطبع"، ثم يزيد في التفصيل ويقول "بل هم في الواقع بعض فرق السنة بالطبع".


و"بالطبع" هذه تحتم علينا أن نقول لمن يقولها لنا "لا"، فما هو مؤكد "بالطبع"، هو أن قائلها ينتمي إلى فئة "العنصريين" بمرتبة الشرف.


ببساطة، سأقول "لا" لمن يقول لي "إن الرأي لا يخرج عن نطاق النص"، و"أن هناك افكاراً مقبولة وأخرى مرفوضة"، و"أن هناك جوانب لا يصح فيها أن نُعمل العقل"، و"أن نتاج الفكر البشري من كل الحضارات لا يعنيه كثيراً أو قليلاً"، وأن الفكر هو "فكر الله".


أقول له "لا"، لأني أدري أن ما يسميه ب"فكر الله" لا يزيد عن "فكر الإنسان"، وأني لذلك حرة،

حرة في أن أفكر، وأحلق بعقلي في كل جانب مقبول أو مرفوض، وأغرس خلاياه في تلك الجوانب المحظورة، وأختار من نتاج البشرية ما يلائمني، ثم أخلق لنفسي عالماً يتلائم مع بشريتي واحتياجي إلى الله.


وربما ستخلقين لنفسك، وتخلق أنت لنفسك، عالمين آخرين، قد يوجد فيه الله وقد لا يوجد. المسألة ليست مهمة كثيرة. ما هو مهم حقاً هو أن ندرك أن اختيارنا ليس فرضاً على غيرنا، وأننا في كل تنوعنا واختلافنا نعيش في خلية واحدة هدفها واحد: أن نكون مواطنين فيها على قدم المساواة.


ومن المستغرب بالطبع أن أكرر كلاماً سبقني إليه من قبل آخرون، وقالوه أيضاً، لكن قبل قرون بعيدة.


لكننا نعيش في زمن عادت فيه عقولنا العربية والإسلامية إلى الماضي، تعيش فيه، وتقهقرت معه.

فحق علي أن أذكر بما هو مفروض أن يكون بديهياً.

وحق علي لذلك أن أطالبكم: لنقل معاً "لا"!

الاثنين، 7 سبتمبر 2009

العقل أولاً!

دعونا نعيد الحوار إلى خانته الأصلية: خانة العقل والمنطق والإقناع.

نعيده إلى النقطة التي بدأ بها في تجلياته الأولى في القرن التاسع العشر، ثم كتمنا على أنفاس اصحابه منذ ثلاثينات القرن العشرين، فأكمل عباقرتنا حياتهم في كتابات تتحدث عن عبقرية محمد وعلي، وسير الصحابة والعظماء.

فضاعت الفكرة.

أي خسارة!

نعيش أثارها يومنا هذا، في نفوسنا المتهالكة اليائسة النافرة، وفي عقولنا الرافضة الجامدة.


أقول إذن لنعُد الحوار إلى خانة العقل، ولنخرج من مصيدة "قال الله تعالى"، أو "قال الرسول الكريم".

هي مصيدة لسببين.

الأول، هو أن هناك أشياء في القرآن لم يعد من الممكن القول إنها تصلح لزماننا هذا. عاف عليها الزمان، وأصبح من الصعب القول إنها تنتمي إلى عصرنا هذا.

العبودية واحدة منها. هي مذكورة في القرآن، تماماً كما أنها مذكورة في الكثير من الكتب المقدسة.

وأعرف أن البعض، سيرفض أولاً مجرد مقارنتي للقرآن الكريم مع كتب سماوية أخرى، وهذا شأنهم، وغيرهم الأكثر سيقولون: لكن الدين الإسلامي حض على تحرير العبيد في كل فرصة مواتية، وهذا أيضاً صحيح، لكنه لم يدنها كممارسة، وهنا المحك.


تماماً كما أن هناك الكثير من الأشياء غير المعقولة التي ذُكرت في ما نتناوله ونُصر على أنها أحاديث نطق بها الرسول الكريم. كحديث الذبابة الذي يحثنا إذا سقطت في شراب أمامنا أن نكمل غمسها فيه ثم ننزعها، ونشربه على بركة الله، لأن في "إحدى جناحيه دواء وفي الأخرى شفاء".

ومع احترامي لمن وضع هذا الحديث، لأنه حديث موضوع حتى ولو ذُكر في صحيح البخاري، إلا أن عقلي يعافه، وينفر منه، ولا يقبله. فمهما كانت درجة خشوعي وإيماني تظل نفسي تعاف الذبابة.

ورغم غرابة مثل هذا الحديث، نجد من يخرج علينا ليقول "لقد أثبت العلم الحديث أن في جناح الذبابة الخير الكثير، وأنها بالفعل تحتوي على مصل مضاد لبكتيريا جناحها الأخر!" ومادام الأمر كذلك، لم لا ننشره كخبر أول في صحفنا العربية، حتى يعم الخير على المعمورة، وتستفيد البشرية من مثل هذا السبق العلمي.

بالله عليكم ألا نستحي؟

ما علينا.


إذن هذا هو السبب الأول.

الثاني، هو أن كلمة العقل تُخرجنا من مأزق"الإجتهاد". وهو مأزق بحق.

المؤيديون لمبدأ إستخدام العقل في تسيير شئون حياتنا، عادة ما يدللون على إمكانية فعل ذلك بالقول "إنظروا ما فعل الخليفة عمر بن الخطاب عندما أوقف دفع المبالغ التي ذكرها القرآن للمّؤلفة قلوبهم، وبرر ذلك بأن الأسلام أصبح قوياً لا حاجة له بهم بعد اليوم، ثم أوقف حدَّ قطع يد السارق في عام المجاعة، لأن الظرف كان لا يسمح بتنفيذه، لاسيما وأن الناس يتضورون جوعاً ويشاهدون أطفالهم يموتون أمام أعينهم".

كلام جميل.

لكنهم متى ما بدءوا يعُملون عقولهم خرج عليهم من يجادلهم "وهل أنتم بمكانة عمر بن الخطاب. الاجتهاد حق للعلماء" فقط، والعلماء المقصودون هنا هم علماء الدين طبعاً!

أربع كلمات، "الاجتهاد حق لعلماء الدين"، تلغي كل إمكانياتنا الفكرية والعقلية، مقدرات كل من درس علوم الحياة، لأنهم ليسوا علماء دين.

تخيلوا إذن حال أوروبا اليوم، لو أنها إستمعت إلى حظر الكنيسة في القرون الوسطى على التفكير.

وقتها، قالت هي الأخرى إن التفكير والإجتهاد حصر على علماء الدين، على من يقدر على فك تفشيرات الفكر الديني المقدس. ووقتها أيضاً أعتبرت من خرج على هذا الحظر ملعوناً في الدنيا والآخرة.

لكنهم كانوا أدرى.

لم يطيعوها، أدركوا قبلنا أن العقل هبة من الرحمن، أنعم علينا بها كي نستخدمها، بها ميزنا عن غيرها من المخلوقات، وهي بتكوينها الفريد لم تخلق كي نجمدها في ثلاجة أبدية إسمها "لنثق في علماء الدين"، فأنا ببساطة لا أثق فيهم.

بعض هؤلاء العلماء يطالبني أنا المسلمة أن لا أحيّي أخي المسيحي، وهو أبن جلدتي وعروبتي، أو أخي اليهودي، أو أخي البوذي، أو أخي الملحد، وكلهم أخوتي، أخوتي في الإنسانية.

وهم أيضاً يصرون على أن كل بدعة ضلال.

البدعة، وهي الابتكار والتجديد، نسميها ضلال.

تماماً كما أنهم يصرون على أن كوني إمرأة يجعلني "ناقصة" في "العقل وفي الدين". وستشهقون "هذا حديث الرسول الكريم"، وأرد عليكم بالعقل إن من كرّم المرأة عندما جاء في زمن كانت المرأة فيه تُورث كبضاعة، لا يمكنه بالمنطق أن يقول مثل هذا الحديث.

دعونا إذن نُقدم على التفكير،

دعونا نعيد حديثنا إلى خانته الأصلية: خانة العقل والمنطق والإقناع.

دعونا نقول من جديد، إن الحياة رهن بفكرنا وإرادتنا، ومعها مستقبلنا.

الثلاثاء، 1 سبتمبر 2009

لي لسان لن أقطعه!

لي صديقة عزيزة.
أحبها رغم أن معرفتي بها لازالت قصيرة.

حذرتني!
وكادت أن تنهرني.

قالت لي: هل لديك ميول انتحارية؟
رديت بلا.

فأردفت: "إذن أكتمي صوتك. لا تتعجلي بعرض أرائك كما هي. أنت تعيشين في واقع لا تتجادلين فيه مع من يخالفك بالكلمة والحرف والقلم. بعضهم سيرد عليك بسكين ينغرز خلسة في جسدك، وأنت لا تتوقعين".

وأكملت: "اعرضي أرائك تدريجياً، حتى يكون القارئ مهيئاً لما تقولينه. ماذا يجديني إذا كتبت كتابين، ثم تعرضت للأذى. أكتبي عشرة، وفي العاشرة دعي ملامح اعتراضاتك تتجلى في هدوء".

قالت كل هذا لأني صارحتها بأن رئيس تحرير موقع شفاف بيار عقل وافق متكرماً على نشر سلسلة لي بدءا من شهر سبتمبر القادم تحت عنوان "يوميات امرأة عربية"، أعرض فيها لوجهة نظر كامرأة تقول إن هويتها تتداخل بين عدة دوائر.

أولها أنها إنسانة، وثانيها، أنها عربية، وثالثها، أنها مسلمة. لكن الثالثة تظل حيزاًَ خاصاً تتعامل معه بحب، و تحرص عليه في الوقت ذاته من العلانية.

وأقول أيضاً إني وأن اخترت الإسلام ديناً، إلا أن هناك أوجه من هذه الديانة، عاف عليها الزمان، وأن بعضها لا يمت إلى واقعنا بصلة، وغيرها تم تأسيسه لحماية مصالح عديدة، ولذا هي من الدين الحنيف براء.

وأقول أيضاً إنه كما كان العقل عند المعتزلة مرجعاً في التشريع، فإني أراه أيضاً مرجعا في الحياة، أؤسس عليه حياتي، وأقيم عليه قواعد بناء إنسانيتي. وإني لذلك سأعرض وجهة نظر لرؤية إنسانية للدين الإسلامي الحنيف، هي على النقيض تماماً من تفسيرات القرون الوسطى.

أقول كل هذا من منظور أنثوي قد يثير الاشمئزاز لدى البعض، وقد يعتبره البعض ترهات امرأة تنظر إلى التفاصيل، وتدخلنا في متاهات لا داعي لها. لكن الشيطان يا عزيزي كما تعرف يختبئ دائماً في التفاصيل.

ربما لذلك ستقول لي "لم لا تستمعين إلى رأي صديقتك الطيبة. فحديثها منطقي وهادئ، وهو أدعى إلى الحفاظ على السلامة".

ومادمت أنت وهي قد اتفقتما، فلعل الحق معكما.
ربما من الأفضل لذلك أن ألجم لساني، أو لعل الأفضل أن أقطعه؟
لنقطعه ولنتخلص من وجع الرأس.

نقطعه كما قُطع لسان إبن المقفع!
قطعه أولو الأمر لأنه أراد النصيحة بكلمات مواربة.
ولأنهم قطعوه رغم أنه آثر السلامة، أفُضل لذلك أن أنطق برأيي بلا مواربة، بصورة مباشرة.

لساني إذن من النوع العنيد، يقول الكلمة وهو يعنيها، ويترك لمن أمامه الخيار أن يقبلها أو يرفضها، وحبذا لو رفضها بالكلمة والحوار لا بالرصاص والتجريح.

الصمت لم يعد خياراً. أصبح واجباً ، نكسره ونتحمل عواقب كسره.

هو الصمت الذي جعلنا نقف اليوم، ونحن في القرن الواحد والعشرين، محلك سر.
كأن الزمن مر على كل الأمم ليقف عندنا ساكناً، لا يتزحزح، و نسكن لذلك في فجوة زمنية، نعيش فيها ما عايشته أوروبا في القرون الوسطى.

هو الصمت عدونا، ومعه الخوف الذي يلجم ألسنتا.
ولأنهما كذلك قررت أن لا أقطع لساني.
أن أحافظ عليه.
وأن أنازلهما، الصمت والخوف، بالكلمة والحرف.


ولأن قراري كان عقلانياً أسألكما، أنتَ وهي، أن توافياني الأسبوع القادم في يومياتي العربية.

لعلكما تستمعان وتصغيان، ولا تجفلان.

يوميات إمرأة عربية

أعزائي وعزيزاتي

اليوم سأبدأ بإعادة نشر يوميات إمرأة عربية التي نشرها موقع شفاف الشرق الأوسط في سلسلة بدأت يوم 30 أغسطس 2005 إلى سبتمبر 2006.
عندما بدأت في كتابتها كنت غاضبة.
وهذا الغضب سيتبدى لكّن في السطور.
ومع الوقت هدأت.
فتبلورت ملامح الإسلام الإنساني.
تقبلوا كلامي بصدر رحب، ولاتسيئوا الظن بي.
محبتي،
إلهام مانع

السبت، 29 أغسطس 2009

ولي أمري أدرى؟

والله، أني كدت أبتسم.
لكني إحترت كيف أبتسم؟
ثم قلت لنفسي، إن الإنسان هو الإنسان.
في حكمته أو ضعفه.
هنا أو هناك.
لا فرق.
فعُدت عن الإبتسام، وتفكرت.


بعض السيدات السعوديات، تفتقت قريحتهن.
أردن أن يأخذن موقفاً من الحركة المدنية الناشطة الداعية إلى منح المرأة السعودية بعضاً (وليس الكل) من الحقوق التي تتمتع بها نظيراتها من النساء العربيات. فخرجن علينا بحملة عنوانها "ولي أمري أدرى بأمري".
فتحولت حملتهن إلى مادةٍ للتندر.
هل نلومهن؟ كل ما أرادوه هو أن يكّحلوا واقعا، لا يعرفوه، فزادوه عمى.
وفي الواقع سيكون غريبا أن نتوقع منهن امراً لا يفهموه. ففاقد الشيء لا يعطيه، كما تعرفون.


معظمهن ينتمين إلى الطبقة الإرستقراطية السعودية.
ورئيستهن أميرة.
اياديهن مخملية. ويعشن في القصور والفيلات. فهل نلومهن إن جهلن واقع المرأة السعودية؟


سيدات الحملة خفِن على نساء المملكة. خفِن على النساء من النساء.
من ناشطات سعوديات، يعشن يوميا واقع المرأة في شرق المملكة وغربها، في شمالها وجنوبها. يعرفن كيف تعاني، يعرفن كيف تعيش مذلة يومية.
لسن اميرات. لحسن الحظ.


ويؤمن أنه من حقهن أن يعاملن كإنسان بالغ راشد.
إنسان.
ليست طفلة المرأة.
ليست قاصر المرأة.
وليست عاراً نغطيه.
ناشطات تعبن من واقع المعاناة والمذلة اليومية.
فطالبن بإلغاء مبدأ الوصاية على المرأة السعودية.


لم يستغربن أن بلدهن هو البلد المسلم الوحيد الذي يمنع المرأة من قيادة السيارة. الا يبدو غريبا ً ان تنفرد السعودية بهذا المذهب الغريب؟ لكنه كان دوما غريبا.
لم يتساءلن لم ينفرد وطنهن بين البلدان الإسلامية، بأن زاد الخناق على المرأة فيه ألف ضعف، فأصبحت المسكينة لا تتحرك دون إذن من ذكر، لا يميزه سوى عضوه الذكري.
فأصبحنا نرى إمرأة في العشرين، ينهرها اخاها إبن العاشرة.


ولي أمري أدرى بأمرها؟
بالله عليكن؟


لم يستغربن أن المرأة في بلدهن لا تستطيع ان تتحرك شبراً دون إذن من وليها. لا يحق لها أن تخرج من بيتها، أن تدرس، ان تذهب إلى المستوصف... دون إذن من ولي أمرها.
وولي أمرها هو أبوها أو اخوها أو أي ذكر في عائلتها حتى تتزوج. ثم يصبح ولي أمرها زوجها حتى يموت أو تموت. يزوجها وهي في العاشرة، يضربها، أو يعنفها، أو... يُحسن معاملتها. هي وحظها.
كالبطيخة، قد تكون ناضجة حمراء تنز حلاوة، أو تعثر، فتكون مُرة، حامضة، مقيتة كالقطران.


يعشن اميرات. والقيود التي تخنق المرأة العادية كل يوم، لا تطبق عليهن.
هل واجهن يوماً رجلاً من هيئةِ كتم أنفاس الخلق؟ لو وقع نظر رجل من الهيئة علي واحدة منهن، لتوارى خوفاً.
فالدين كما تطبقه الهيئة لا يعترف إلا بالقوة. قوة ولي الأمر.
أين من رجالها والدين؟


ولي أمري أدرى بأمري؟
بالله عليكن؟


لم يستغربن. لم يتساءلن.
بل إنزعجن، بسذاجة يحُسدن عليها، تذكرنا بسذاجة ماري إنطوانيت، من مطالب من أحترقت ايديهن بنار الواقع اليومي للمرأة السعودية.
فبعثن برسالة إلى العاهل السعودي، يدعونه إلى الثبات على الظلم.


"من قال إننا في حاجة إلى حقوق؟"
"لا نريد حقوقاً تتنافي مع عاداتنا!"
"كف أيديهن عنا!"
"أقطع السنتهن!"
"ثم أخرس أصواتهن!"
"دعنا كما نحن!"
"كائن في درجة أقرب إلى الحيوان! (مع إحترامي للحيوان)"

والمدهش، أني لم أندهش. لم أندهش من الحملة.
اتعرفن لماذا؟
لأن تاريخ الحركات النسائية المطالبة بحقوق المرأة في كل أرجاء العالم، كان مليئا بحملات شبيهة بحملة "الرجل أدرى بأمري" هذه.
مقابل كل إمرأة ناشطة طالبت بحقوقها، وقفت اكثر من إمرأة تلعنها، بإسم العادات، بإسم التقاليد، وبإسم الدين (أيا كان هذا الدين)، وتُعيب عليها سعيها إلى التغيير.
ليست غريبة هذه الحملة.
تشبه حملة أخرى قامت بها نساء سويسريات في العشرينات ثم في الخمسينات والستينات ضد االمطالبات بحق المرأة في التصويت. هن أيضا لجأن إلى الدين والعادات والتقاليد كذريعة تقف أمام التطور.


حتى في هذه لسنا فريدين.
فالإنسان كما قلت من قبل هو الإنسان.
في حكمته، وقوته.
وفي ضعفه وسذاجته.
هنا أو هناك.
لافرق.

لكن ولي أمري، ليس أدرى بأمري.
فأنا الأحق بشأني.
والأدرى بأمري
حتى وأنا أحني رأسي إجلالاً لأبي.

وصاحبات الحملة يصررن على البقاء قاصرات.
ذاك شأنهن.
لكن من قال إنهن يتحدثن بإسم المرأة السعودية؟

طريق التنوير

هل تذكرون عندما قلت لكم في مقال سابق أني كدت أبتسم من حديث شيخنا الزنداني؟

قلت لكم: “كدت أبتسم”.

لم أقل: “ابتسمت من حديثه”، بل قلت “كدت”،

و”كدت” تضفي على الفعل بعداً غير كامل.

وكان اختياري للفظ متعمداً.

لم أبتسم ساخرة لسبب بسيط هو إدراكي أن ما يقوله الشيخ الزنداني يلقى صدى شعبياً واسعاً.

فكر الشيخ السلفي، وهو فكر ظلامي يعيدنا قهراً إلى قرون ماضية، لا يؤمن بالإنسان، ولا يحترم إرادته، كما لا يؤمن بقبول الغير أياً كان هذا الغير، ناهيك أنه لا يقبل بالمرأة إلا إذا كانت مكفنة، تسمع وتطيع، ولا تملك قرار نفسها، هذا الفكر يتفشى ويلقى القبول على أرض الواقع من قطاعات واسعة من مجتمعنا.

وهذه القطاعات الشعبية لا تفعل ذلك لأنها تريد أن تكون ظلامية التفكير.

أغلبُها يعيش على سليقته،

أغلبُها طيب القلب.

تفعل ذلك لأنها تعتقد أن ما يقوله الشيخ من الدين.

تعتقد ذلك جازمة.

وشعوبنا، يمنية كانت أم عربية، ضعيفة أمام من يرسل لحيته، ويتحدث باسم الدين، ترتعش أمامه، وتنتظر الكلمات أن تخرج من بين شفتيه كي تصدق.

شعوبنا تحب الله،

تبحث عنه بصدق،

وتريد أن ترضيه،

الله لا الشيخ،

ومادام الشيخ يقول “هكذا قال الله”، أفلا يجب عليها السمع والطاعة؟

هل نلومها هي؟

بل نلومه هو، ونواجه فكره، ذاك الذي ينشره بأموال كثيرة وعزيمة لا تكل.

هي معركة فكرية، نتائجها ستحدد من نكون، وما نكون.

لكن كيف ندخلها؟

هذا هو السؤال، وهو سؤال كما لا يخفى عليكم سبق أن طرحه على أنفسهم أسلاف لنا في القرن التاسع عشر، وحاول البعض الرد عليه في بدايات القرن العشرين، ثم انقطعت ألسنتهم، فلم نسمع لهم حساً بعد ذلك.

لكنه سؤال لا نستطيع أن نتفاداه أكثر من ذلك.

سؤال أصبح الرد عليه واجب، لأنه ببساطة سيحدد مصيرنا “إما أن نكون أو لا نكون”.

والرد عليه يستلزم أن نضع أصبعنا على موطن الجرح، وجرحُنا في الوطن!

الوطن لا غيره.

مشكلة الوطن أنه لم يكن ابدأ وطناً لنا.

كان ولا يزال وطناً أعرج، يمشي بين بين، لا يحمي حقوق مواطنيه، لا يسعى إلا متعباً إلى تنمية واقع مجتمعه، ولا يعبر في الواقع إلا عن طموحات أقلية، تبتلع ثرواته ولا تترك للغالبية إلا الرذاذ.

وطن أعرج.

نمشي معه خائفين.

نمشى معه غير آمنين.

نمشي ونحن ندعوه أن يرحم، فلا يرحم.

لم يعرف أبداً النهضة التي كان الحالمون يمنون أنفسهم بها.

لم يعرف أبدأ الإصلاح كما أراده المصلحون.

لم يعرفها لأنها ببساطة عندما بدأت أجُهضت!

بدأت في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، مع شيوخ من أمثال الشيخ محمد عبده ومفكرين من أمثال طه حسين، حاولوا أن يضعوا أسساً جديدة لفكر عقلاني.

ثم لم يكملوا حديثهم.

صمتوا.

أو أصُمتوا.

مد الفكر “القومي” كان كاسحاً.

هديراً أصم الآذان.

فكر يقوم على مبدأ “عرقي”، يقول ب”عروبة” مواطنيه، شاءوا أم أبوا، ويفرضها عليهم كأساس للمواطنة.

لم يؤمن بالحرية، ولم يؤمن بالإنسان.

بل آمن بنفسه.

فصدقته الشعوب فرحة.

كان زمن الأحلام. هل نسيتم؟

نحلم حتى وإن كان الحلم ضريراً..

“سنكون شعباً واحداً، ونحيا رافعي الرأس، ونحتل موقعنا من جديد بين الأمم الراقية”، هكذا كان الحلم.

لكنه كان حلم هرولة.

لم ينجح في الواقع إلا في تأصيل نمط الاستبداد في أنظمتنا السياسية. تحولت كلها إلى ملكيات، جمهورية كانت أو وراثية.

يا خيبة الإنسان.

وخرجنا من مرحلته لاهثين، مذهولين، صفر الأيدي.

وأفقنا على فراغٍ سارع الإسلامُ السياسي إلى ملئه.

اليوم ومع انتشار مد الإسلام السياسي نستشعر وخز الفراغ الذي نعايشه فكراً.

نستشعره لأن فكر النهضة الذي كان يجب أن يُترك لمساره كي يتطور أُجهض.

جنين لم يكتمل.

وطننا لا زال مسخاً مشوهاً لا يعرف ما هويته.

وطننا لا زال أعرجاً، يمشي بين بين، لا هو مدني ولا هو ديني.

وطننا لا زال يبحث عن الفكر الذي يؤسس لوجوده.

وشعوبنا ممزقة تريد أن تحيا، ولا ترى أمامها إلا فكراً يدعوها إلى الموت وهي حية.

وواجبنا أن نقدم لها البديل.

والبديل لا يمشي أعرجاً.

بل على قدمين.

مساران متزامنان يلتقيان ليقدما البديل.

الأول يستلزم فرضاً فصل الدين عن الدولة.

كي تكون دولتنا مدنية، محايدة، قادرة على حماية حقوق مواطنيها، كي تتعامل معهم على قدم المساواة، يجب أن تكون علمانية.

فالدولة ليست كياناً إنسانياًً كي نقول “دين الدولة هو الإسلام”، بل مؤسسة هدفها حماية حقوقنا.

تمعنوا في الكلمات.

مؤسسة وهدفها حماية حقوقنا.

وكي تحمينا عليها أن تتعامل معنا من موقع محايد.

مطلبٌ لا يعيب.

ليس فيه ما يُخجل.

لأنه ببساطة يعيد الدين إلى موضعه الطبيعي، إلى الحيز الشخصي.

تؤمن به أو لا تؤمن، ذاك شأنك الخاص.

والدولة تحمي حقك في أن تكون كما تشاء.

ذاك المسار الأول.

المسار الثاني يوفر الأساس الفكري للأول، فهو الذي سيحدد مصيرنا في الواقع، بدونه لن يكون للأول معنى.

بدونه سيتكرر ما حدث في تونس، فهي علمانية لكنها مستبدة رغم ذلك.

والسبب ببساطة أن نمط الاستبداد، الأصيل في أنظمتنا، قائم جوهراً على تراثنا الفكري الذي ظل عصياً على النهضة.

لا يكفي أن تعمد إلى فصل الدين عن الدولة، ثم تؤسس كيانك المجتمعي في الوقت ذاته على فكر ديني لم تمسه يد الإصلاح.

إصلاح الدين هو المسار الثاني.

وإصلاحه يجب أن يكون جوهرياً.

يدخل إلى اللب.

لا يكتفي بالقشور.

لا يكتفي بالترقيع والترميم.

بل يبدأ بطرح الأسئلة الجوهرية.

يبدأ بالبحث في طبيعة النص الديني نفسه، قرآنيا كان أم سنياً، والفصل بينه وبين الإيمان بالله، كي نتمكن من دراسته والبحث فيه ضمن إطاره التاريخي، دون خوف، دون رعب، ودون شبح التخويف بأننا ننال من المقدس.

لا إصلاح حقيقي للدين دون مواجهة هذا البعبع.

بدونه لن نتمكن من وضع أساس فكري جديد يحترم الإنسان وإرادته.

بدونه نظل نلف وندور حول أنفسنا، كما نفعل منذ قرون، نخشى أن نواجهه، ونفسح في الوقت ذاته المجال للفكر الديني السلفي، بكل جهله وخرافاته، كي يزيحنا هو من وجهه، ويستفرد بالعقول.

وقد كاد أن يفعل.

و”كاد” يضفي على الفعل بعداً غير كامل!

وطن أعرج،

وبعبع يخيفنا جميعاً.

الوطن نبنيه كي نتنفس فيه،

والبعبع نصرخ فيه “لست سوى بعبع” رغم الفزع.

نسعى إليهما حافين،

نسعى إليهما مخلصين،

بالعقل، بالفكر، وبالكلمة،

كي نحيا،

كي نحيا،

ولو بعد قرون

السبت، 8 أغسطس 2009

وجه الله... وجه غاضب؟

ومنذ متى كان الله كارهاً لخلقه؟
تساءلت، وأنا استمع إليها.
ووالله، أني احترقت، وأنا اردده.
وها أنذا أعيد السؤال إليكما: منذ متى كان الله كارهاً لخلقه؟
فتمعن، ثم تأملي، قبل أن تردا!


محدثتي كانت صحافية ماليزية، هندوسية الديانة.
إلتقيتها على هامش مؤتمر "تعلُم الحياة في عالم متعدد الثقافات"، الذي عقد في Caux في سويسرا بين الخامس والتاسع من يوليو الماضي، والذي رعته منظمة المبادرة من أجل التغيير.


كانت تحدثني عن مايحدث في ماليزيا. كانت تحدثني عن ألمها.
عن التغيير الذي يحدث في بلدها... تغيير أَثر على حياتها، وحياة غيرها. وكانت تقص علي حكاية عرفتها من بداياتها، لأنها القصة نفسها التي تكررت فصولها في بلداننا العربية بدءا بمصر، مروراً بسوريا، واليمن،...، وبلدان المغرب العربي.


محدثتي قالت لي إنها كانت تحيا في منطقة، سمُتها التعدد. منطقة هي بؤرة مصغرة لماليزيا. وكما تعرفون، دولة ماليزيا تجمع بين قوميات وديانات متعددة. نصف سكانها مالاويون يدينون بالإسلام، ثلث السكان ماليزيون من أصل صيني، ومعظمهم يدينون بالبوذية، ونحو 7% ماليزيون من الهنود يدينون بالهندوسية أو المسيحية، إضافة إلى جماعات سكانية تنمي إلى إصول تايلاندية أو إندونيسية.


محدثتي قالت لي إنها في الماضي كانت تعيش مع مواطنيها من الماليزيين في وئام ومحبة .. إلى حد. لأنهم، كانوا يتعايشون معاً، ولا يتزاوجون فيما بينهم.
في كل الأحوال، وعلى الأقل، كانوا يعيشون معا، كلٌ ودينه، ويختلطون ويتزاورون. وكان التسامح سمة الحياة.


ثم هبت رياح التأسلم الشعبي، حركته جماعات إلاسلام السياسي. تماما كما هبت تلك الرياح في بلداننا العربية، وغيرت من طابعها. نراه اليوم من جديد في بلدان جنوب شرق آسيا.
فأقتلعت المحبة والتسامح من جذورها.

محدثتي قالت لي إن الزيارات التي كانت يومية مع جاراتها وصديقاتها من الماليزيات المسلمات تباعدت... فأصبحت إسبوعية.
ثم تباعدت أكثر فأصبحت شهرية.
ثم أنقطعت.
وقبل أن تنقطع، عادتها بعض من تلك الصديقات. قلن لها إن الأئمة الجدد في المساجد يحذرونهن من الإختلاط بمن لا يدين بدينهن. وأنهم أكثروا من النصح، بكلمات تنز بالكراهية، قالوا لهن:"لا تودوا من لا يدين بدينكن. أقطعو صلة المحبة والود. وحبذا لو أضمرتن لهن الكراهية في القلب".


ولأنهن ظننَّ أن الأئمة في مساجدهن يحدثونهن بحديث الله، صدقن ما يقولونه. وكما تعرفون، فإن بعض الظن إثم.
خفن، فأبتعدن، حتى أنقطعن عن صديقتهن الماليزية الهندية الأصل، الهندوسية الديانة.

فعاد السؤال إلى من جديد: ومنذ متى كان الله كارهاً لخلقه؟
لا أقول ذلك بأريحية من يقتنع بتفوق دينه، كما يفعل الكثير من مفكرينا المسلمين.
كأنه يتصدق على خلق الله، بمحبة الله أو كراهيته.
بل أقولها لأني على قناعة أننا جميعاً نقف أمامه سواسية.
مسلمون، مسيحيون، يهوديون، بوذيون، هندوسيون، ملحدون. كلنا خلقه.

الله المحبة. هكذا تصورته دائما. نوره المحبة.

أما الله الذي يصوره لنا الفكر الديني السلفي، فهو لا يزيد عن رجل غاضب. هكذا يصوره لنا.
رجل غاضب، وجهه مكفهر، متجهم، كئيب، كئيب. لا يحب. بل يكره.
ونخافه. أي والله نخافه، يقولون لنا أن نخافه، فترتعد فرائصنا منه، هو ومعه الموت.
فلا نأمن له.
كأنه صورة مجسدة لمن يروج للفكر السلفي نفسه.
الله المحب، لا وجود له ضمن هذا الفكر.
لا يحبنا. وفي الواقع لا يحب لنا الخير.
فهو عندما يحبنا يَمن علينا بالبلايا.
هل تذكرون تلك العبارة التي مافتئوا يكررونها علينا:"إن الله إذا احب عبداً إبتلاه!"
يقولون لنا إن الله عندما يحبنا يكرهنا!! فيتصدق علينا بالبلايا!! بالله عليكم، هل نريد حبه بعد هذا؟

ومع الوجه المكفهر للرحمن الذي يصورونه لنا، كذلك الدين الذي يدعونا إليه.
دين لا يحب الحياة. بل يدعونا إلى الموت، وإلى الموت ونحن نحيا.
دين لا يؤمن بالجمال في الحياة. بل ينفر من كل ما هو جميل في الحياة.
لا يؤمن بالحب، بالفن، بالغناء، بالموسيقي، بالرقص، والرسم... لا يؤمن بالجمال.
تخيلوا: نغمة موسيقية جميلة، نطرب لها، نهز رؤوسنا معها، فينعق علينا صائح، "الموسيقي حرام". لا يؤمن بالجمال بل يصر على القبح، الظلام، الكراهية، ثم الموت.

أريد صورة للرحمن "طبيعية".
يحبنا، ونحبه.
لانخافه.
بل نحبه.
ليس بعباً، نخيف به الأطفال، فيصابوا بالكوابيس، ويبللوا أسرتهم ليلاً.
وإريد ديناً، لا يدعو إلى الموت في الحياة. بل يدعونا إلى الحياة، ومحبتها.
فأنا أريد أن أحيا. وليس في الحياة، أو محبته، ما يعيب.


هذه رؤيتي للرحمن، وهذه رؤيتي للدين كما أمارسه. قد تتفقون معها، وقد تختلفون. وفي كل الأحوال سأحترم موقفكم.



لكن، عندما يتعلق الأمر بعلاقة الإنسان بغيره من البشر، عندما يتعلق بالعلاقة مع الماليزية من أصل هندي، ودياناتها هندوسية، رجوتكم، رجوتكم كثيراً، أن لا تقحموا الدين في الموضوع.
وأنا اعني هذه العبارة كما فهمتموها.
لا تُدخلوا الدين في علاقة الإنسان بالإنسان، سواء كان هذا الدين داعياً إلى المحبة أو الكراهية.
بكلمات اخرى، حتى لو جاء إنسان يدين بالمسيحية، في صورتها المتسامحة (فالتطرف في كل الأديان كما تعرفون)، ليقول لي إن دينه يدعوه إلى محبة غيره من غير المسيحيين، فإن موقفي سيظل حذرا من مثل هذا الحب. فكما احبني لأن دينه يقول له ذلك، فهل سيكرهني لو دعاه دينه إلى الكراهية؟
هما وجهان لعملة واحدة. سلوكٌ يتحكم فيه فكر ديني.
وأنا لا أريدها محبة دينية.
بل إريدها محبة إنسانية.

أخرجوا الدين من تعاملنا مع الإنسان.
لا تحبوا إنساناً أو تكرهوه لدينه، أو لأن دينكم يقول لكم بالمحبة او الكراهية.
بل إقبلوا الإنسان كما هو.
مجرداً.
هكذا.
إنسان.
لو كان فعله خيرا، أحببته. وسأحبه، لا اسأل هل هو بوذي، هندوسي، ملحد، مسلم، مسيحي، أو يهودي.
ولو كان فعله سيئا، ابتعدت عنه. ولن أسأل.
لكني لن انقطع عن زيارة جارتي، لأنها هندوسية الديانة.
ولن اكف عن تحيتها ومعايدتها في الأفراح والأحزان، لأنها تؤمن بألهة متعددة.
ما تؤمن به شأنها، مادام لا ينتهك حقوقاً إنسانية.
وما يربطني بها هوية هي الأسمى: هوية الإنسان.

وكما أن الله لا يكره خلقه، كذلك الإنسان لا يكره نظيره.

ولذا، اعود، لأقول لكم، هي الحكاية نفسها تتكرر فصولها، نراها اليوم في ماليزيا وإندونيسيا، كما تابعناها صامتين، في بلداننا العربية، تكتب سطورها رياح الاسلام السياسي، و لن يقف في وجهها، ويتصدى لها غير إيمان الإنسان.. بهوية الإنسان.

الأربعاء، 1 يوليو 2009

إنزعجت!

إنزعجت كثيراً لخبر تعيين داليا مجاهد عضوا في المجلس الإستشاري للأديان للرئيس الأمريكي باراك أوباما.

وإنزعجت أكثر من إنزعاجي.

قلت لنفسي، لا تكوني متطرفة في علمانيتك، ولا تمتعضي من حجابها، نصف أعضاء عائلتك من النساء يرتدين الحجاب، والمسألة في النهاية قطعة قماش قد لا تحدد في الواقع طريقة تفكيرها.

لكني، كي أكون أمينة معكم، كنت منزعجة لسببين: الأول، هو أن من تنشأ في بيئة غربية ثم تقرر إرتداء الحجاب عادة ما تكون متأثرة بفكر ديني أكثر محافظة مما هو سائد في بلدانها العربية. وإن كنت أقُر أن حالة التأسلم الشعبية السائدة حالياً في البلدان العربية، لم تعد تعطي مجالاً للتفريق بين تدّين المهجر الحاد ونظيرة في البلد الأصلي.

السبب الثاني، كان حالة الفرح التي سادت وسائل الإعلام الممولة من المملكة العربية السعودية، إضافة إلى ترحيب منظمة إسلامية أمريكية معروفة بميولها الإخوانية الإسلامية بتعيين داليا مجاهد في المجلس الإستشاري.

ولأنهم رحبوا كثيراً بتعيينها أستغربت، ثم تخوفت.

رغم ذلك، اخذت مسافة من أرائي، وقلت إنتظري، الوقت وحده سيتكفل بتوضيح لونها ومواقفها.

ثم جاء خطاب الرئيس باراك أوباما الذي وجهه من جامعة القاهرة إلى العالم الإسلامي. أعجبني في مجمله. لولا عبارة قالها خاطفة، لفتت إنتباهي مرة أخرى، فلسعني إمتعاضي من جديد.

أدرك أن أي خطاب لرئيس في دولة غربية، يمر بمراحل وقنوات عديدة قبل أن يصل إلى صورته الاخيرة. ولذا لا أريد أن اضخم من دور المجلس الإستشاري للإديان، أو عضوة فيه من بين عشرين.

لكني استغربت للعبارة! كان الرئيس اوباما يفتخر بالحريات المتوافرة للمسلمين في الولايات المتحدة، والى المدى الذي دفع بالحكومة الأمريكية، على حد قوله، "إلى الذهاب إلى المحاكم للدفاع عن حق المرأة والفتيات في إرتداء الحجاب، وعقاب من يحرمهم من هذا الحق".

هنا أدركت أن الرئيس أوباما يستمع إلى وجهة نظر إحادية في هذا الشأن. وأن وجهة النظر الإحادية هذه تقف مستفردة بالتعبير عن ما "يمثل المسلمين والمسلمات"، وهي وحدها التي تقول "هذا ما يريده المسلمون والمسلمات". ولعلها في الواقع لا تقول إلا ما يمثل "رؤيتها هي للإسلام". رؤية متأسلمة.

أن تذهب الحكومة الأمريكية إلى المحاكم للدفاع عن حق المرأة في إرتداء الحجاب، شأن يمكن أن نختلف عليه. فهناك من يقول ان الحجاب جزء من الدين. والكثير من النساء ممن يرتدين الحجاب اليوم يفعلن ذلك لأنهن مقتنعات فعلاً أنه جزء من دينهن.

في المقابل، اليوم، إرتفعت العديد من الأصوات من داخل البلدان العربية والإسلامية، التي تؤكد وتصر على أن الحجاب رمز سياسي جاء مع مد سياسي إسلامي، وفي الواقع لا علاقة له بالدين. هو الرمز الذي أتخذه حسن البنا، مؤسس حركة الأخوان المسلمين، كنمط مضاد لصورة المرأة التي تبناها كمال أتاتورك في تركيا العلمانية، بعد أن اعلن إنهاء زمن الخلافة العثمانية. لكنه وهو يفعل ذلك، لم يقل هذا رأيي، بل قال هذا رأي الله. الله هو الذي قال، رغم إن حسن البنا فقط هو الذي قال. وهذا الشد والجذب بين الصوتين، يثير قدراً من التشوس والبلبة، قد تبرر سبب إندفاع الحكومة الأمريكية الحماسي في الدفاع عن حقوق المحجبات من النساء.

لكن أن تذهب الحكومة الأمريكية إلى المحاكم للدفاع عن حق الفتيات في إرتداء الحجاب أمر لايثير فقط الإستغراب، بل الإستهجان، لأنها بذلك لا تدافع عن "حق إنساني" بل تساهم في إنتهاك حقوق هذه الصغيرات.

كم منا رأى طفلة في السادسة أو التاسعة ترتدي الحجاب؟ ومنذ متى بدأنا نرى هذه الصورة؟ صورة طفلة صغيرة تغطي نفسها كاملة! هل كنا نفكر يوما في تغطية طفلة في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي؟ بالطبع لا. وإلى يومنا هذا في المجتمعات المدنية في البلدان العربية، لا نسمع عن طفلة في السادسة من العمر تضطر إلى إرتداء الحجاب.

لأنها أعزائي طفلة، تحب ان تلعب وتجري وتقفز، لا أن نجرها بحبال من قماش يخنقها وأنفاسها في كل حركة.

فلنحكم عقولنا أخوتي، من يدافع عن الحجاب، يطالب بتغطية الجانب الإنثوي في المرأة كي لا تثير الرجل، هذا المنكوب بغرائزه. ولو إفترضنا فرضاً أننا نقبل بهذه الرؤية "الحيوانية" للإنسان، ذكرا كان أو أنثى، فإنه من المنطقي القول إن الطفلة مستثناة من هذه المطلب. اليست طفلة؟ والطفلة ليست إمرأة تصلح للنكاح. ورجوتكم ان تحتفظوا لإنفسكم بأراء من تعرفونهم من الفقهاء عن زواج الصغيرات. لأنها مخجلة، مخزية، ومهينة لهم ولمن يؤمن بها.

مد الأسلام السياسي ومعه هوجة التأسلم الشعبي التي أمتدت إلى بعض اوساط المهاجرين في البلدان الغربية دفع بهم إلى التطرف إلى حد اصبح فيه الفارق بين طفلة وإمرأة لا يعني الكثير بالنسبة لهم. طفلة أو إمرأة سيان. هي إنثي، والسلام، وكل ما هو انثى خطر يجب حجبه وتكفينه. ومع المد اصبحنا نرى البعض يصرخ في البلدان الغربية مدافعاً عن حق الطفلة في أن تتحجب! وأن تعامل كإمرأة! وأن تنتهك طفولتها! والصارخ لا يرى غضاضة في منطقه!

لذلك، لم تكن عبارة الرئيس موفقة.
فالرجل كان يفاخر في الواقع بأنتهاك حكومته لحقوق الأطفال في مجتمعه.
و الأهم أن عبارته لم تأت من فراغ. بل عبرت عن رؤية من يقدم له النصح.

صممت رغم ذلك، أن لا ادع رؤيتي أنا الأخرى تتحكم في.
قلت لنفسي، الإنسان يُعرف مما كتبه اخيراً. فبحثت عن الكتاب الذي اشتهرت من خلاله داليا مجاهد، وعنوانه، "من يتحدث بإسم الإسلام؟"، والذي نشر في نيويورك باللغة الإنجليزية عام 2007.

كتاب، اجرت فيه الباحثة وزميلها جون إسبوزيتو مسحاً ميدانيا لعينة من السكان في العديد من البلدان في المعمورة، ضمن إطار مسح جالوب المعروف، وتزعم فيه وزميلها أن نتائجه تعبر عن أراء أكثر من مليار مسلم.

ما أجمل الخيال في صورته العلمية.

لا أعرف رأيكن أخواتي، لكني اعمل في مجال البحث العلمي، وأرى من المستحيل لأي مسح ميداني أن يعبر عن اراء اكثر من مليار شخص. من يزعم ذلك لا يبالغ فقط، بل يتجاوز حدود الإدراك المعرفي العلمي.

فتشت في الكتاب عن مفهوم "الشريعة"، أردت أن ارى، هل تدافع فيه الباحثة عن رؤية مدنية للقانون في البلدان الإسلامية؟ وهذه نقطة ليست فلسفية من جانبي، لكنها ضرورية لإي إصلاح فعلي: قانون مدني يستند إلى مفاهيم حقوق الإنسان، يتعامل مع المواطنين في الدولة على قدم المساواة، بغض النظر عن الدين (والمذهب)، الجنس، اللون، أو العرق.

ووجدتها في الواقع تدافع عن الشريعة قائلة هي وزميلها أن هناك خلطاً في المفاهيم بين الشريعة والقانون الإسلامي، الشريعة على حد رأيهما هي "بوصلة، تعبر عن المبادئ التي تتعدى الزمان ولا يمكن تغييرها"، والقانون الإسلامي "الفقة" الذي هو "خريطة، يجب أن تتفق مع البوصلة".

وجدت من الغريب بعد ذلك التمييز بين الشريعة والقانون الإسلامي ان لا يثار خلال الحديث عن حقوق المرأة موضوع قوانين الأحوال الشخصية العربية، التي طالب تقرير التنمية البشرية العربي لعام 2005 بتغييرها لضمان النهوض بالمرأة العربية من واقعها المتخلف.

تلك القوانين تعتمد في مضمونها على نصوص قرآنية، أي أنها تدخل صميماً في مفهوم الباحثة للشريعة "البوصلة"، وهي تؤسس للتمييز القائم ضد المرأة ضمن نطاق العائلة. ولأنها مجحفة، وفقاً لقراءتنا اليوم لمفاهيم حقوق الإنسان، فإنها بالتأكيد مباديء مرتبطة بزمان نزولها، ويمكن تغييرها حتما بصورة تضمن حق المرأة في الكرامة والإستقلال. بكلمات أخرى، الشريعة يمكن تغييرها.


ووجدت من الأغرب أنها وزميلها عندما يتحدثان عن "الإسلاموفوبيا" الأوروبي، يتغافلان عن وجود مجتمعات موازية متأسلمة في أوروبا، تصر على الفصل بين الجنسين، وتصر على فرض صورة نمطية للمرأة، وتنتهك مفاهيم المساواة التي وصلت إليها هذه المجتمعات بعد مئات السنين من الكفاح.

وجدت كل هذا غريباً.
فمن يتحدث عن واقع، يتوجب عليه أن ينظر إليه من أوجهه المتعددة، لا من وجه آحادى ضيق.

أما الأغرب فهو أن الرئيس الأمريكي اوباما في سعيه إلى فتح حوار مع العالم الإسلامي أختار صوتاً لا يعبر عن التعددية القائمة في الأراء والمواقف في البلدان الإسلامية. بل إختار صوتاً يقول له "هذا هو الإسلام وهكذا هم المسلمون والمسلمات"، بدلا من أن يقول له "هذه رؤيتي للإسلام، وهذه رؤيتي لما يراه المسلمون والمسلمات".

والفرق بين العبارتين شاسع.

تمنيت لو أن الرئيس الأمريكي أختار اكثر من شخصية في مجلس مستشاريه، لا داليا مجاهد فقط، كي تمثل المليار مسلم، التي تزعم الباحثة في كتابها أنها تتحدث بإسمهم.

أكثر من شخصية تعبر عن تعددية الأراء والمواقف المدنية والعلمانية القائمة في البلدان العربية والإسلامية، إضافة إلى شخصيات تعبر عن مواقف الأقليات الدينية والمذهبية فيها، وصوت هؤلاء كما تعرفون يبدو دائما غائباً. وعندما تجتمع في مجلس واحد ستكون قادرة على تقديم رؤية متوازنة للواقع الذي يسعى أوباما إلى فهمه. وأظن أن في الولايات المتحدة الكثير من العقول والشخصيات القادرة على القيام بهذه المهمة على أكمل وجه.

هل تفهمون سبب إنزعاجي؟
ثم إمتعاضي؟
فالخوف، كل الخوف، أن الرئيس أوباما، لأنه لا يريد أن يكون كالرئيس بوش في مواقفه الإحادية، سيعمد هو الأخر إلى تبني رؤى أحادية مضادة.

وكلاهما يظل إحادياً، غير متعدد.


إلهام مانع

الخميس، 7 مايو 2009

دفاعاً عن الإنسان!

هناك أوقات يتوجب فيها على الإنسان أن يتخذ موقفاً.
اليوم اقف في هذا الموضع.
أنظر إلى حال اليمن، واقول لنفسي: "لاتصمتي. قولي شيئا. عبري عن موقفك".

وفي الواقع، يصعب على المرء أن يقول شيئاًَ في زمن يؤدلج فيه كل شيء؛
و يصنف الإنسان فيه في خانات، يتفتت معها ليصبح اشلاءاً... ممزقاً ممزقاً.
يقولون:
"هذا مع السلطة، وذاك معارض".
"هذا مؤتمري، وذاك اشتراكي. ثم غيره إصلاحي".
"هذا شمالي،و ذاك جنوبي".
"هذا هاشمي، وذاك حميري".
"وهذا زيدي، وذاك شافعي".
"هذا سني، وذاك شيعي".
"وهذا مسلم، وذاك يهودي".
"ثم هذا حضرمي، وذاك عدني، وغيره من أبين".

وفي الواقع لست مع هذا ولا مع ذاك.
لست مع السلطة ولا مع المعارضة.
وحتما لست زيدية أو شافعية.
كما أني لست شمالية أو جنوبية.
ولو أردتم الصدق، لا أعترف بالحدود هوية.
جِلدي يمني.
لن أسلخه.
لكني قبل كل شيء إنسان.

وفي الواقع لا أرى أياً من هذه التصنيفات وأنا اتحدث معكن اليوم.
في الواقع، لا أعترف بها حتى وهي تفرض نفسها علينا غصباً.
في الواقع، وأنا أتخذ موقفاً الآن، لا أرى سوى وجه الإنسان في وطني.
الإنسان!
وجهه، ووجهها.
ثم دمعهما.
معاً.

وجه الشيخ العجوز الذي التقيته يوماً وهو "يراجع" في دوائر حكومية، يبحث عن تعويض حكومي لأرضه، أخذتها الدولة كي تبني مشروعاً للمياه لم يُبنى. والعجوز يدور بين الدوائر، وكل يتلقفه ككرة، يرميه يوماً بعد أخر إلى مراجعة جديدة. وهو حائر ملهوف خائف، يخاف من الأيام، لو أسرعت مات، وهو من يكفل أحفاده، وحيدأً بعد أن فقد ابنه، من يحمي حقهم لو مات هو الآخر؟ ويمسك الأمر الحكومي في يده، المرتعشة دوماً، ويسأل: أين التعويض ياناس؟

لم يكن العجوز جنوبياً. كان شمالياً، إذا كنتم تحبون التصنيفات.

وجه آمنة، التي التقيتها مع فريق تلفزيون سويسري ونحن نصور فيلما عن مشكلة المياة في اليمن، في التسعينات.
آمنة الطيبة، لا تعرف عدد اطفالها.
آمنة الطيبة، تعيش وزوجها واطفالها، ثلاثة أو أربعة، مع بقرتهما، في غرفة مظلمة بلا نوافذ.
آمنة تحكي لنا عن الماء.
من منا يدرك مصاب اليمن في فقد الماء؟
آمنة ترسل أطفالها، كل يوم ليجلبوا لها الماء.
ساعتان كل يوم.
يمشونها كل يوم.
كي يجلبون لها جردلين من الماء.
يشربون منهما، يغسلون منهما، ويغتسلون فيهما، ثم تشرب البقرة منهما.
هل تستشرفون مستقبل أطفال آمنة؟

وجه آمنة وأطفالها.
يبتسم رغم الفاقة.
طيب رغم المشقة.
ويثق بك، حتى وهي تدري أنك حتماً تكذب وأنت تواسيها او تمنيها.

آمنة وأطفالها يعيشون في المناطق الوسطى، مادمتم تصرون على التصنيفات.

ووجه الشاب، شاب يافع ويائس.
هرب من وطنه، بحثاً عن الرزق.
وطن يخيفه. لا يشعر فيه بالامان.
فهرب من الوطن، وخلفه تسع اخوات، وأم تدعو له ليل نهار.
وبحث عن الرزق في أوروبا.
ووجد نفسه يصنف "كمهاجر غير شرعي".
يضطر للعمل "سراً"، ليستغله من يوظفه "سراً".
ويصر على البقاء، رغم أنه يعيش "سراً".
إلتقيته صدفه في قطار.
واكتشفت ان هويتنا واحدة.

الشاب جنوبي، إذا كنتم ممن يؤمنون بالتصنيفات.

ثم وجه الأب، ملهوف على أبنته. يحملها بين ذراعيه، وهي هامدة، هامدة، يصرخ في رواق مستشفى حكومي، يصرخ وهو ينتظر دوره، دورها، ينتظر منذ ليلة وصباح، ويرى أصحاب الواسطة يدخلون أمامه في لحظة، وابنته لا تتحرك، جثة بين ذراعيه هامدة. صرخته المحترقة لا تزال ترن في إذني إلى اليوم.

المستشفى في صنعاء، كي اُذكركم بالتصنيفات.
والرجل لا أدري.
لعله كان شمالياً، لعله كان جنوبيا، لعله كان شافعياً، لعله كان زيدياً.
لعله.
لكن لوعته كانت لوعة إنسان.
وحرقته كانت في وطنه.
اليمن.

وجه الإنسان في وطني.
هذا هو كل ما اراه في هذه الأزمة التي تقف أمامها اليمن.
وجهه ووجهها.
وجه من لاصوت له.

الفقير لا صوت له في وطننا.
المسكين لا صوت له في وطننا.
والضعيف لا صوت له في وطننا.
والمحتاج لا صوت له في وطننا.
بغض النظر عن التصنيفات.
رجلاً كان أم إمرأة.
شمالياً او جنوبياً، لا صوت لهما.

وصوتهما، هل إندهشتم؟، يبدو أيضاً غائبا في هذه الأزمة.

كم مرة تقاتلنا؟
قبل الوحدة، وبعدها؟
كم مرة؟
في الشمال وفي الجنوب، وبين الشمال والجنوب، ثم بين اطراف اليمن الواحد.
يندى الجبين ونحن نتذكر.
لم لا تخجلون؟
وكنا نتقاتل في كل شطر،
وكنا نتقاتل بعضنا ضد بعضنا،
وكنا نتقاتل الشطر ضد الشطر.
بعضنا يقتل بعضنا.
ونبرر القتل بالقتل.

وفي كل قتال كان أنين الإنسان صامتاً.
لم نسمعه.
رغم الصراخ.
لم نأبه له.
رغم الدماء.

واليوم ايضا نريد أن نتقاتل.
متى ستكفون عن قتل بعضكم البعض؟
الم تتعبوا من الدماء؟

يقولون إن التاريخ يعيد نفسه. وأنا أرى ان هذه العبارة محض هراء. فالتاريخ يصنعه الإنسان، وهو يختلف بأختلاف الزمن والموقف ثم المعطيات.
نحن من يصنع التاريخ.
ولأننا كذلك، قررنا في مايو 1990 أن نتحد.
كان قراراً.
قراراً.
وكان قراراً لا يعتمد على معطيات موضوعية.
ففي الواقع أن التصنيفات والتقسيمات كانت دائماً موجودة، إن لم تكن في لغتنا، ففي ذواتنا.
موجودة.
لكننا قررنا ان نتناسى ذلك، وأن نتحد. هكذا تصنع الأوطان، بقرار متعمد بتكوينها، لو تدرون. أسماها اندرسون "المجتمعات المتخيلة".
وكنا فرحين.
كان هناك امل.
وكان هناك وعد بمستقبل.

الآمل تلاشى، والمستقبل معه.
ومن جديد نقف أمام نفق: حرب ودمار وأنين.
ومن جديد علينا أن نختار.
فماالعمل؟

لا اجد حلاً إلا في أن نقف في صف الإنسان.
صف من لا صوت له في وطننا.
وصدقوني، أن هذا الحل هو الأصعب.
ولعلي لذلك اطرحه عليكم وأنا حزينة. لأني أدري، أننا كثيراً ما نبحث عن الحلول البسيطة، نستسهل معها نحر انفسنا بأنفسنا. ثم نفيق على الدماء.. من جديد.
لكني سأطرحه عليكم رغم الإدراك.

دعونا مرة، نكف عن الصراخ، ونرفع اصبعنا عن الزناد، ونقف أمام الأزمة، ونجد لها حلاً.
حلاً يعترف بأن هناك مشكلة في الجنوب.
وأن علاجها لا يكون بتجاهلها.
بل بإلاحترام والندية.
وحلاً يعترف بأن هناك مشكلة في كل ارجاء الوطن. لا في الجنوب فحسب. فأنين الإنسان في كل ارجائه. لم اسمعه في الجنوب فقط.
وحلاً يعترف بأننا إذا اردنا أن نتحد، فإن الوحدة لا تقوم إلا على أساس إحترام الإنسان في داخل هذه الوحدة، بغض النظر عن التصنيفات.
وان هدر كرامة هذا الإنسان لا محالة ستؤدي إلى تشرذم الوطن.
لامحالة.

دعونا نبحث عن حلٍ يحمي هذا الإنسان.
يحمي العجوز، آمنة وأطفالها، الشاب، ثم الأب الملهوف، وابنته...
لأن هذا الإنسان هو من يجد نفسه دائما محشوراً في معمعة القتال، مرعوباً.
هو من يحمل في النهاية أشلاء اطفاله، ويجمعها ملووعاً.
وهو في النهاية، من يجد نفسه مدفونا في بحر من الدماء.
نسفكها، ونحن نصرخ. كلٌ وتصنيفه.

لو اصغيتم السمع، ستسمعون أنينه.
ولو دققتم النظر، سترون ملامحه.
ولذا، أسألكم من جديد: الم تتعبوا من الدماء؟

الثلاثاء، 21 أبريل 2009

ياعيبتاه!

في الواقع تعجبت.
وأظنكم تعبتم من كثر تعجبي.
لكني، ككل مرة، أجد دوماً أن هناك ما يستدعي التعجب.
فتحملوا، وأستمعوا إلي!

ما الذي اثار تعجبي، تسألون؟
لا. لم تثر الضجة الدولية حول قانون العائلة الأفغاني تعجبي. تلك كانت ضرورية. ولذا احني لها رأسي إحتراماًَ.
بل التغطية المؤدبة التي اعقبتها في وسائل إعلامنا العربية.
كأننا نتحدث عن موضوع عجيب، غريب، لا نعرف له شبيهاً في منظومتنا القانونية. كأننا نتحدث عن واقع في كوكب بعيد. ولذلك، وككل مرة، أعود لأقول لكم، وماذا عن هنا؟

لمن لم يتابع الموضوع، إليكم خلفيته. الضجة اثيرت بعد توقيع الرئيس الأفغاني حامد كرازاي في نهاية شهر مارس الماضي على قانون للعائلة وضع خصيصاً لأقلية الهزارة الشيعية. يمنع قانون "شؤون الأسرة الافغانية" الزوجة من رفض إقامة علاقة جنسية مع زوجها، او مغادرة المنزل الزوجي، أو العمل، او التعلم، أو زيارة طبيب بدون الحصول على إذن من الزوج.

زوجة وزوج.
يفترض فيهما ان يعيشا على الحلوة والمرة، وأن يؤسسا لحياة مشتركة.
إحترام، محبة، مودة، وعشرة حسنة.
هكذا تصورت دوما مفهوم الزواج، رغم أن كل النماذج التي شاهدتها في حياتي،مع استثناءات قليلة، كانت تقول لي العكس.
ثم يأتي قانون، ويحول الزواج إلى مصيبة.
كارثة وحطت على رأس المرأة.
يحولها من إنسان إلى جارية.
جارية. جارية. جارية.
بضاعة متعة لها دور يتوجب عليها ان تقوم به، شاءت أم أبت.
يقول لها "إنسان؟ أي إنسان يامرة؟ أية مودة ومحبة وعشرة حسنة يامرة؟ ما أنت إلا جارية تسمع وتطيع. زوجك هو ربك. هو الله. إذا قال لك زوجك تعالي، هبي لنداءه. وإذا قال لك مارسي الجنس معي، اخلعي رداءك وافتحي ركبتيك، ثم اهمدي، وموتي.. كمداً".

لحسن الحظ أن الناشطات الأفغانيات والمنظمات الأفغانية لحقوق الإنسان تعلمن الدرس الذي ادركته كثير من الناشطات الحقوقيات في الاونة الآخيرة: "لا تصمتن! أرفعن اصواتكن، وطالبن بحقوقكن. الجأن إلى وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والإليكترونية، ولا تترددن في تسمية الأشياء بأسماءها. هل لاحظتن كيف أصبح الفايس بوك منبراً للكثير من النشاط الحقوقي العربي ؟ لو لم تلاحظن، انصحكن بفتح حساب فيه اليوم."

الناشطات الأفغانيات فعلن ذلك، رفعن اصواتهن، لم يلتفتن لصمت الحكومات الغربية اثناء مناقشة البرلمان للقانون، وواصلن إحتجاجهن، ثم لجأن إلى حملة دولية عبر الفايس بوك لفتت اخيراً انتباه وسائل الإعلام الدولية، والتي بدورها مارست ضغطاً بتساؤلاتها على الدول المانحة. نفس الدول التي كانت قبل ذلك صامتة.
فبدأت الدول المانحة، واحدة بعد الأخرى، ترفع صوتها محتجة. لسان حالها كان مستهجناً:"كيف يمكننا أن ندعم نظاماً يجيز إغتصاب الزوجة رسميا؟".
سبحان الله!
ألم يكن يجيز إغتصاب الزوجة رسميا قبل ذلك؟
ما علينا.
المهم انهم اضطروا إلى التحرك والإحتجاج. وبسبب ذلك الأحتجاج، لا غير، قرر الرئيس الأفغاني، أعادة النظر في القانون، معلنا أن وزير العدل "سيدرس تفاصيل كل بند بدقة"، مضيفاً "وإذا مثل اي بند مشكلة فإننا سنتخذ الإجراءات الضرورية بالتشاور مع العلماء".
جميل.

هذه هي خلفية الموضوع.
ما اثار تعجبي هو الطريقة التي مارست فيها وسائل الإعلام العربية تغطية مؤدبة للموضوع. بعضها حاول أن يغمز بأن القانون يتعلق بالأقلية الشيعية، ولذا، فالمسألة تتعلق بالمذهب الشيعي تحديداً. وهذا البعض عليه ان يخجل من نفسه، خاصة وأنه ادرى انه لا فرق كبير بين المذهبين الشيعي والسني عندما يتعلق الأمر بقوانين العائلة التي تحتكم إليها الدول العربية.
البعض الأخر، غطى الموضوع كأنه غير معني بها إطلاقاً. كأننا نتحدث عن قضية تتعلق بأهل المريخ، حسبهم الله ونعم الوكيل.
وسؤالي هنا تحديداً، هل القضية لا تعنينا بالفعل؟

دعوني أقدم لكم نماذج من قوانين العائلة العربية كي تدركون أن القضية تعنينا نحن أيضاً.
المادة 40 من قانون العائلة اليمني لعام 1992، يشير تحت بند "في العشرة الحسنة"، إلى أن "للزوج على الزوجة حق الطاعة فيما يحقق مصلحة الأسرة على الأخص فيما يلي: الإنتقال معه إلى منزل الزوجية؛ تمكينه منها صالحة للوطء المشروع في غير حضور احد؛ امتثال امره والقيام بعملها في بيت الزوجية مثل غيرها؛ عدم الخروج من منزل الزوجية إلا باذنه.."
قانون العائلة اليمني ينص أن على المرأة ان تطيع زوجها، وان هذه الطاعة تشمل الذهاب معه أينما ذهب، كأنها غير معنية بالموضوع، تمكينها من نفسها، اي ممارسة الجنس معه، أرادت ذلك ام لم ترد، والامتثال لأوامره، ثم القيام بعملها في بيت الزوجية، وأن لا تخرج من منزل الزوجية إلا إذا أذن لها!
كأنها أجيرة. اليس كذلك؟
القانون اليمني يقف على قمة الهرم هو والاحكام الشرعية الممارسة في المملكة العربية السعودية ( لا يوجد قانون للإحوال الشخصية في المملكة) عندما يتعلق بهذا الشأن.
وبعدهما تتدرج قوانين الأحوال الشخصية العربية (بأستثناء تونس والمغرب) في مدى قربها او بعدها من هذا النموذج المؤسس لدونية المرأة ودورها كجارية، لا كشريكة للحياة. فالزواج وفقا لهذه الرؤية ليس نظاماً يقوم على الأحترام، يتكون من فردين، يتمعتان بنفس القدر من الحقوق والواجبات.
لا حظوا أيضا أن قوانين الأحوال الشخصية للمواطنين في البلدان العربية ممن يدينون بالديانة المسيحية او اليهودية ليست افضل حالا، وإن كانت اقل حدة من نظيراتها الاسلامية (لم يفرض اي منها على المرأة ان تمارس الجنس مع زوجها غصبا عن انفها). لكن الجوهر، هو أن المسألة تتعلق برؤية ذكورية للإديان، أيا كانت، اسست لهيمنة الرجل في العلاقات الأسرية.
على سبيل المثال، المادة 46 من قانون الأحوال الشخصية للأرمن الارثوذكس في سوريا ولبنان تقول "الرجل هو رأس العائلة وممثلها القانوني والطبيعي، على الرجل أن يحمي زوجته وعلى المرأة ان تطيع زوجها".

أطيعي زوجك؟
لم لا يطيعني هو؟
هل يبدو الأمر مزعجا لو انقلبت الأية وأطاع الزوج زوجته؟ تخيلوا لو نص قانون الأحوال الشخصية اليمني على المادة التالية: "للزوجة على الزوج حق الطاعة، وعليه ان يلبي رغبتها الجنسية متى شاءت، وحبذا لو غسل المواعين قبل ذلك".
منطق غريب. يؤلم ويجرح في الواقع. اليس كذلك؟ لكنه غريب لو تعلق بالرجل أو المرأة على حد سواء. لا يؤمن بالشراكة والأحترام كأساس لعلاقة زواج إختيارية.
إختيارية.
أنا أختار ان اتزوج.
ليس قدراً ولعنة. وقد أختار ان لا أتزوج.
وعندما أختار الزواج أفعل ذلك كي اضيف شيئا إيجابيا إلى حياتي.
ليست بلية أو مصيبة.
ولكي لا تكون بلية او مصيبة، أدرك أني عندما أتزوج، أتزوج كإنسان، تماماً كزوجي، إنسان.
فردان. متساويان. محبان.
ما أجمل الواقع عندما يكون عادلاً.

"رومانسية حالمة". بعضكم يبتسم الآن.
لعلها كذلك.
لكنها تظل بديلا لرؤية تقول للمرأة أنها ليست إنسان. إمعة. مطية. يركبها الرجل متى شاء. وهي عليها أن تسمع وتطيع، وتبتسم فوق هذا.

إذن .
هل فهمتم سبب تعجبي؟
ما يحدث في أفغانستان يحدث لدينا اليوم.
في هذه اللحظة.
في هذه الثانية.
وهي ليست نصوص قوانين جامدة.
بل نعيشها واقعاً.
تضطر معها المرأة إلى قتل آدميتها كل ليلة في فراش الزوجية.
هل نسيتم بدور؟ لا تنسوها.
فحبذا لو صرخنا نحن أيضا، وطالبنا بتغيير قوانين الأحوال الشخصية العربية.
لإنها المفتاح إلى التغيير، لو كنتم تدركون!
يومكم سعيد.

السبت، 11 أبريل 2009

تراث التعددية!

صوتها هو أكثر ما يلفت انتباهي وانا أستمع إليها.
صوتها المندهش.
صوت أروى عثمان.
يندهش دوماً كلما طرحت عليها السؤال ذاته. مرتان، مرة في زيارتي الميدانية إلى اليمن عام 2006، ومرة في حديثنا الأخير عبر الهاتف قبل اكثر من شهر.
أسألها: "ما سر كل حرصك هذا على جمع التراث اليمني؟" أسألها وأنا صادقة في حيرتي.

ستفهمون حيرتي عندما تدركون أن اروى عثمان إستثمرت كل ريال جنته بعرق جبينها في جمع الثراث اليمني.
بدأت في جمع موزاييك المقتنيات والازياء الشعبية منذ اكثر من عشرين عاماً.
يوماً بعد يوم، سنة بعد سنة.
كانت تسافر من منطقة إلى اخرى في ارجاء اليمن، من قرية إلى قرية، على حسابها الشخصي، وتجمع، وتجمع، وتدفع من جيبها، وهمُها ان تقتني نماذج من التراث اليمني.

لم تفكر يوماً في أن تدخر مبلغاً لنفسها أو لبنتيها، لم تفكر يوماً ان تشتري لنفسها سيارة، شقة، أو بيتاً، اكتفت باستئجار شقة تبحث فيه عن شرفة تحتسي فيه قهوتها المرة. آه ما اصعب الإنسان عندما يؤمن بهدفه.
الحقيقة أنها لم تفكر إلا في جمع ذلك التراث. ونجحت فعلاً عندما أسست بيت التراث الشعبي، فَخُرها، الذي ارادت أن تحوله إلى متحف شعبي، ولم تندم، رغم غصتها.

"لم كل هذا الحرص على جمع التراث ياأروى؟"
أروى عثمان، الكاتبة، الباحثة، والأديبة. رائدة نسائية يمنية.
"طريقك كان سيكون سهلا لو اخترت مهمة ايسر، لو تحولت إلى هدف اخر.. لو؟"
وهي؟
هي تنظر إلى محدثتها، ودهشتها تسيل من صوتها.
ترد: "تصدقي اني عندما اُسأل هذا السؤال لا أعرف الأجابة. لكن مع الوقت بدأت افهم."

أتذكرون يوم قلتُ يوماً أن "الأسود أصبح لونَ الحياة"؟
تحول إلى السواد مع إنتشار مد الإسلام السياسي، بأطيافه السنية والشيعية. الأسود ينتشر، يكرة الآلوان، يكرة التنوع، ويصر على لون واحد، واحد واحد لا طعم له، يدعو إلى الموت فيتحول إلى الحياة، ويقتلها، ويناشد الإنسان أن ينحر روحه، وعيناه منبهرتان.

وأروى عثمان أنتبهت. أنتبهت إلى أن ألوان التراث اليمني بدأت تختفي.
تقول: " عرفت حينها الجواب على السؤال ‘لماذا؟’ انا نشات وتربيت في منطقة في تعز بالقرب من سوق الصميل، منطقة تراثية، كان فيه دائما كرنفال من الأزياء والرقص والموالد والنساء. كرنفال من الألوان. ومع الوقت بدأت الاحظ أنها تختفي، تذوب، وتتراجع. وتساءلت لم بدأت الورود تختفي؟ فأصبح مثل الهم".
وهمُها اصبح هدفها.
تقول:" اريد أن يرى العالم ألوان تراثنا الزاهية. أريده ان يرى أننا كنا دوماً نحب الحياة، نحبها والوانها المتعددة".
ولأنها أدركت ذلك، لم يكن غريبا أن تتحول هدفاً للهجوم ممن يدعو إلى السواد.

كان طبيعياً ايضاً ان تتعرض للتهديد من سلفيين غاضبين عندما تمكنت في عام 2005 من إنجاز أولى فعاليات بيت الموروث الشعبي في مهرجان المدرهة (الأرجوحة)، تقاليد الحجيج، تقاليد تكاد تندثر، تحتفي بالحجاج بالغناء والأهازيج والمدرهة (الأرجوحة)، ويشترك فيها الرجال والنساء والأطفال معاً.
كنا نغني معاً، لم نر في ذلك جَرحاً في ديننا.
نرتدي ازيائنا الشعبية الملونة، لم نر في ذلك جرحاً في إيماننا.
وكنا نحتفل معا، رجالا ونساء، ولم نر في ذلك هتكا لأعراضنا.
كيف غابت ذاكرتنا؟ ثم كيف زالت الألوان، فأصبح الأسود لون الحياة؟

بيت الموروث الشعبي بقي الدليل على أن التراث اليمني كان دائما ملوناً، متعدداً، محباً للحياة. كان الشاهد. وأروى عثمان نجحت في أن تجعله قبلة للسياح، وتحوله في الوقت ذاته إلى مؤسسة بحثية تعنى بأنتاج الدراسات والبحوث عن التراث والفلكلور والثقافة الشعبية.

ولذا كانت لوعتها فاجعة وهي ترى بيت التراث يختنق أمام عينيها، فالبيت الذي وجدته بعد جهد جهيد، بدأ يتهالك بسبب موقعه المطل على مذابح سوق القاع، محاصر بأكداس القمامة من الأمام، وروائح الذبائح من مواشي ودجاج وأسماك من الخلف، ومهاجم من فئران انتشرت من بيت مهجور قريب.
فاجعة.
الشاهد الحي على تراث يكاد ينقرض، تكالبت عليه القوارض.
فكرت في أن تغلقه أكثر من مرة، بسبب الظروف المادية الصعبة وشحة مواردها.
لكن قلبها لم يطاوعها. فتبحث عن الريال، تجمعه، كي تضعه في البيت من جديد. قربة مخرومة. تحتاج إلى دعم حكومي وغير حكومي.
الدعم الحكومي جاء والحمدلله اخيراً. فشكرا للدعم.
لعله ينصفها.
لعله يمُكنها من أن تجسد حلمها واقعاً إلى متحف عريق يحفظ ذاكرتنا.
ليته يفعل.
فحلمها مرآة لذاكرتنا.
كي لاننسى أننا يوماً كنا نحب الحياة..
ونعشق اطياف الوانها.

الاثنين، 6 أبريل 2009

حذار من التفكير!

الغريب أننا لم ننزعج، أو نرى سبباً للقلق. وأن القرار صيغ ثم صوت عليه، ونحن نتفرج.
والأغرب أننا لم نصرخ. وأن غيرنا لم يجد حرجاً في ان يشيح بوجهه. ككل مرة.
أما الفضيحة فهي ان من صوت على القرار يفترض فيه ان يدافع عن حقوق الإنسان!

القرار الذي اعنيه هو الصادر بتاريخ 27 مارس 2009 عن مجلس حقوق الإنسان في جلسته الاربعين، بعنوان "محاربة إهانة الأديان"، والذي تمكنت 21 دولة (منها دول عربية على رأسها مصر والسعودية وقطر والأردن، واخرى أسيوية مسلمة مثل ماليزيا وإندونيسيا وبنغلاديش والباكستان، وبدعم من جنوب إفريقيا والصين وروسيا) من تمريره رغم معارضة عشرة دول، معظمها دول معروفة بأحترامها لحرية الرأى والعقيدة ككندا وسويسرا وبريطانيا، وامتناع 14 دولة عن التصويت.

أنقسم المجلس، وفي أنقسامه مؤشر على خطورة الموضوع، لكن الدول الإسلامية والصين وروسيا، وهي دول لها جميعاً سجل معروف في انتهاك حقوق الإنسان، تمكنت من إخراجه رغماً عن البقية.

ما الذي قاله مجلس حقوق الإنسان إذن في قراره؟ عبر المجلس عن "قلقه العميق من تزايد وتيرة حملات إهانة الأديان والتنميط الديني للأقليات المسلمة بعد احداث الحادي عشر من سبتمبر المأساوية"، في اشارة واضحة إلى رسوم الكاريكاتير الدانماركية للرسول محمد، وإلى إحساس الإقليات المهاجرة ممن تنتمي إلى الدين الإسلامي (خاصة في أوروبا) بأنها "تحت المراقبة" بسبب إنتمائها الديني.

ثم أكد على "أن احترام كل الأديان وحمايتها من الإهانة هو عنصر اساسي ضروري لممارسة حرية التعبير عن الفكر والعقيدة والدين"، وزاد على ذلك بأن شدد على أن "حرية التعبير عن الرأي وممارستها تحمل في طياتها مسؤوليات وواجبات ولذلك يمكن ان تكون عرضة لبعض القيود، المقننة والضروية لحماية حقوق وسمعة الأخر أو لحماية الأمن الوطني أو النظام العام أو الصحة العامة او الأخلاق".

مجلس يفترض فيه أنه يدافع عن حقوق الإنسان، يخرج علينا بقرار يدعو فيه صراحة إلى تقييد حق التعبير عن الرأي! والأدهى انه استخدم نفس اللغة التي تستخدمها دولنا العربية العزيزة في تكميم افواهنا وعقولنا، بدعوى "حماية الأمن الوطني، او النظام العام، او الصحة العامة (لم افهم موضوع الصحة هذه) او الأخلاق"!

ماذا ترك المجلس لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذن؟

أن تشتكي الاقليات المهاجرة من مسألة تنميطها في أوروبا امر افهمه. فأحداث الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية حولتها فجأة إلى أقليات "مسلمة" بعد ان كانت "عربية" "بلقانية" "تركية" أو "باكستانية". فجأة اصبحنا جميعاً "مسلمين". وهذا التصنيف افرح كثيرا الأسلاميين المقيمين في اوروبا، وهم كثر على فكرة. أفرحهم لأنهم أدركوا ان امامهم فرصة يمكن أن يستغلوها، فمادامت الهوية اصبحت "إسلامية"، فليدفعوا إذن بمطالبهم "الإسلامية"، حماية لل"أقلية المسلمة".

ومطالبهم كانت ولازالت مدروسة بدقة، تماما كما فعلوا في الدول العربية والآسيوية. تنطلق من رغبة في تغيير مجتمعي تدريجي، وهدفها استراتيجي بعيد المدى: "دعونا نركز على مسألة تثقيف النشء الصغير المهاجر وتعليمه اصول دينه"، وهذه الأصول لا تخرج إلا من منظور حسن البنا وإبن تيمية للدين، تدعوه إلى كره الغير، وتغييب وجود المرأة، ثم تؤكد له أن احترام الرأي الأخر ثم الإختلاف كفر صريح.

إذن ان تشتكي الأقليات المهاجرة من مسألة تنميطها أمر افهمه، خاصة وأنه امر يصب في مصلحة الإسلاميين أولا وآخراً.

لكني ادعوها بدلا من الشكوى إلى أن تكف عن الشكوي وتمثيل دور الضحية، وأن تقف موقفاً واضحاً من هؤلاء الإسلاميين، ومطالبهم.

كفوا عن النواح والنحيب.
كفوا عن الشكوى.
ثم خذوا موقفاً.
أتخذوا قراراً!
في صف من تقفون؟

وعندما يتعلق الأمر بالدعوة إلى العنف، بما يسميه الإسلاميون "الجهاد"، علينا أيضا أن نأخذ موقفاً واضحاً لا لبس فيه.

موقفاً يسمي الأشياء بأسمائها:
الجهاد أدعوه إرهاب.
لأنه أعزائي إرهاب.
لا أؤمن بالعنف أياً كان مبرره. وأرفضه. ثم أخذ موقفاً واضحاً منه. وأصر ان لا دين يحترم نفسه يمكن أن يتخذ من العنف كياناً له. ولا اخجل من قول ذلك في وجه من يدعو إليه.
لأنهم عزيزاتي يعتمدون كثيراً على صمتنا.
يعتمدون كثيراً على صمتنا.
فلا تصمتي.
ثم لاتصمت.
ارفع صوتك،
ثم سمي الأشياء بأسمائها.

ثم فليكن كل منكما عضوا فاعلاً في هذا المجتمع.

لست ضيفة في وطني سويسرا.
لست ضيفة فيه.
أعمل فيه، وأعمل، كالنحلة، كي أكون شيئا.
لاأعتمد على نظام الضمان الإجتماعي فيه كما يفعل البعض من المهاجرين، يرون فيه بقرة حلوب، يحلبونها ويمتصون حليبها، ثم لا يخجلون وهم يشتكون!
جزء منه، أنا، وفاعل ايضاً.
مصلحته من مصلحتي، وولائي لهذا الوطن أولا وأخيراً.
فالوطن الديمقراطي الذي يحترم حقوق الإنسان والمرأة، الوطن الذي اتنفس فيه حرة، يستحق هذا الولاء.

هذا الشق الأول من قرار مجلس حقوق الإنسان، المنزعج من تنميط الأقلية "المسلمة"، يمكن الرد عليه.
الثاني هو الطامة.
الشق الثاني يقول لنا بالعامية "صحيح هناك حرية للتعبير، لكن يجب تقييدها حماية للمصلحة العامة. وتقييدها يصبح ضرورياً إذا استهدف الأديان"!
بعبارة اخرى، يحذر مجلس يسمي نفسه مدافعا عن حقوق الإنسان، يحذر الإنسان من "التفكير خارج دوائر التفكير الرسمية".
أية مصيبة هذه يارب؟

رسوم الكاريكاتير الدانماركية يعتبرها المجلس "إهانة للأديان".
وأنا لا اعتبرها سوى تعبيراً عن رأي رسام لم يسمع في العقدين الأخيرين سوى دوي قنابل يفجرها أشخاص يبررون ما يفعلونه بدينهم الإسلامي. هل نلومه هو، أم هم؟
أن يرسم الرسام قنبلة على عمامة الرسول الكريم أمر قد يجرح فعلاً المشاعر الدينية للكثيرين. لكن حرية التعبير تتضمن هذا الحق ايضاً.
الحق في قول الأشياء بلا مواربة كما يراها حتى لو كانت طريقته جارحة. والرد عليه لا يكون بتقييد هذا الحق، الرد عليه لايكون بتهديده بالقتل، بل بالرأي والكلمة.

لاحظوا أن الدول التي تبنت القرار كلها معروفة بانتهاكها لحق الإنسان في التعبير عن الرأي. وهي تفعل ذلك بشكل منهجي منظم. تفعله لأنها تدرك جيداً أن فتح الباب للتعبير عن الرأي سيؤدي حتماً إلى قلب أنظمتها السياسية. لأننا أذا تحدثنا كما نفكر، لن ننسى أن نستهدفها بسهامنا، وأن نضغط باصابعنا على موضع الجرح، وهي اصله. من هنا يأتي إصرارها على إستهداف حرية التعبير والتفكير.

ولأنها كذلك فإنها تصر على ان هناك دوائر مغلقة للتفكير تتصل بثلاث جوانب اساسية، الدين والمرأة والسياسة. جوانب هي المنطلق الأول لأي إصلاح جوهري نتمناه لمجمعاتنا.

إهانة الأديان ستصبح اليوم البعبع الذي يخيفوننا به كي نكف عن التشكيك في الإسلام الرسمي للدولة، والإسلام السياسي للحركات الإسلامية، والإسلام الكلاسيكي الارثوذكسي السائد منذ القرن الحادي عشر.

إهانة الأديان ستصبح الشماعة التي تمنع الباحثين من كسر دوائر التفكير المغلقة واقتحام مجالات يقولون لنا إلى اليوم إنه من
المستحيل التفكير فيها، أهمها طبيعة النص القرآني الكريم.
أتعرفون لماذا؟
عندما نبدأ في إثارة علامات الإستفهام على طريقة جمع النص القرآني، وكيف تمت، ومن قام بها، سنبدأ ايضاً في إثارة التساؤلات عن مدى إلزامية ايات قرآنية تدعونا إلى "طاعة ولي الأمر"!
أليس كذلك؟

"حذار، حذار من التفكير!"
هذا لسان حال الدول "المنتهكة لحقوق الإنسان" في مجلس حقوق الإنسان.
ولأنها معروفة بسجلها فقد جاء قرارها مضحكا ومخزياً في آن واحد.
لكنها تخطيء كثيراً.
تخطيء إذا ظنت انها قادرة على تقييد التفكير.
كل ما عليها فعله هو ان تنظر إلى نموذج الإتحاد السوفيتي.
كيف انهار في لحظة كبرج من رمل.
أنهار بسبب قلة من افراد.
قلةٌ فكرت... ولم تخف.

الأربعاء، 25 مارس 2009

جسُدها...حقُها..!

قاريء يمني عزيز احرق اربع سجائر وهو يقرأ مقالي الأخير "أن تدفن حياً".
لكنه وهو يعبر لي عن اعتراضه على مضمون ما قلته، وتحديداً ما يتعلق بحرية المرأة في جسدها، كان انساناً، حضارياً، أعترض على ما قلته جملة ومضموناً، بيد أنه فعل ذلك بأسلوب لا تجريح فيه، بل كان يقارع بالرأي.

يقول "هل عندما تكون الفتاة حرة في جسدها وسارت في طريق منحرف فهل سيلحق الأذي بها وحدها فقط : بطبيعة الحال لا وألف لا : فأبوها وأخوها وأمها وكل من ينتمي أليها بصلة قرابة سيلحق به الأذى. أختي الفاضله : إن ما قلتيه لا يقبله عقل أو منطق فما بالك بتعاليم ديننا الحنيف. وأين أنتي من ( كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيتة ) ثم أن الحرية ليست مطلقة. أرجوا وأتمني أن تجيبي علي سؤالي التالي :_ هل أذا تأخرت أختي عن البيت ألي ساعة متأخرة من الليل فهل يحق لي أن أسألها لماذا تأخرت وأين كانت ومع من كانت".

جعلني اتوقف عند حديثه.

قلت لنفسي "الأحرى ان تعودي إلى الموضوع من جديد، وأن تكفي عن طريقة الضرب والجري في حديثك. أشرحي وجهة نظرك. كما هي".

بداية، لاحظ عزيزي القاريء، عزيزتي القارئة، أني عندما اتحدث، لا اتخذ من الدين، اي دين مرجعاً. ليس لأنني اخذ موقفاً رافضاً للايمان، أو للدين بصفة عامة.
ليس فعلاً.
من يتابع ما كتبته في يوميات إمرأة عربية، وهي منشورة كلها في ركن الكاتب الخاص بي في موقع شفاف القديم، يدرك أني اتبنى موقفاً يمكن تسميته - إذا اردنا ان نتعامل بمصطلحات المثقفين الذين يكتبون لانفسهم كثيراً، كي لا يفهمهم من يكتبون له – يتجاوز "ما بعد الحداثة" بمراحل.

ما الذي يعنيه هذا؟

علمانية انا. أؤمن بضرورة الفصل بين الدين والدولة، واعتبره الشرط الاول من اجل أي إصلاح يمكن أن يحدث في مجتمعاتنا، ولنا في تركيا نموذجاً- رغم ما في نموذجها من مثالب- لكني لا اتخذ موقفاً سلبياً من الايمان، لا اعتبر ان الأيمان بالغيبيات "إيماناً خرافياً".

بل الايمان حاجة ضرورية، تحتاجها الاغلبية الساحقة من البشرية، وأنا من ضمنها. قناعة تعب كثير من الناس حتى وصولوا إليها بعد عقود من لعن "الإيمان" وسنسفيله. ربما لأنهم ادركوا أنهم بدونه يتوهون كثيراً، ومعه يجدون بوصلة تجعل من "عبثية" الحياة أمرأ محتملاً.

رغم ذلك، اصر في قراراتي وفي حياتي، أن اتعامل من منطلق عقلاني إنساني حر. ببساطة اُخرج الدين من حيزي العام.

بعضكم سيقول، ولم لا تتعاملين من منطلق ديني، فالقيم الدينية ليست حلة تختارين متى تلبسينها ومتى تخلعينها.
وردي ان الدين بالنسبة لي ينظم علاقتي الروحانية بالخالق، وبالطريقة التي تتناسب مع احتياجاتي. أكرر، وبالطريقة التي تتناسب مع احتياجاتي.

وأظن ان الكثيرين منا يفعل ذلك كل يوم، لكننا لا نُصرح بذلك، فالكثير مما اقوله يثير ضجة، لا لشيء سوى أني أقول صراحة ما أعتدنا ان نفعله خفية. ولذلك يأتي وقعه مزعجا.

كم مرة تصلي إذا كنت من المصلين؟ بعض من أهل السنة سيصلون خمس مرات في اليوم. وبعض من أهل الشيعة يصلون ثلاثة مرات في اليوم. والخلاف حتى في هذا التفصيل. وغيرهم سيصلي مرة في الأسبوع.

وأنا أصلي عندما احتاج إلى الصلاة.

عندما أحتاج إلى الصلاة، وأنا احتاجها اخواتي، اصلي. لكني لا احولها إلى روتين يتحول مع الوقت إلى حركات رياضية لا معنى لها.
فهل كفرت؟
هل يخرجني هذا من دائرة الإيمان؟
لاحظوا أني قلت "دائرة الإيمان" ولم أقل "دائرة الإسلام". فالأولى تحدد أن الهدف، الأساس، من فكرة الأديان، هو الله، الإيمان بخالق أكبر منا. لا يهم كيف نصل إليه. المهم أن نصل إليه.
والثانية تصر أن هناك طريقة محددة مفصلة للوصول إلى الله، ومن يرفضها خرج من دائرته.
حتى ولو قال بأعلى صوته "ياالله أحبك"، سيكّفرونه.
لأنه لا يحبه ب"طريقتهم".
إما "أن تحبه كما نحبه، أو انت كافر.. به"!
سبحان الله!

والإسلام ليس وحده في هذه القناعة. كل التفسيرات المتطرفة للأديان، المسيحية واليهودية والبوذية والهندوسية، تتعامل مع من لا يؤمن "بطريقتهم هم"، وفقط "بطريقتهم هم"، على أنهم كفرة.

وهو امر يضنيني كثيراً، أخوتي.
فأنا على قناعة أني لم اخرج من دائرة الإيمان.
ليس فعلا.
ليس بالنسبة لي على الأقل.
فمادمت اقر بحاجتي إلى الصلاة، فأنها تعني حتماً حاجتي إلى وجود الخالق، وإيماني بوجوده، لكني لا امارسها إلا عندما احتاجها.

أموري الحياتية، علاقتي بالغير، لها حسابات اخرى.

لو تركت التفسيرات القائمة للدين تنظم حياتي، سأضطر إلى التعامل مع من حولي من منطلق "مدى إيمانه" من "عدمه"، وسأفعل ذلك بقدر كبير من "الاريحية". امر يزعجني هو الاخر كثيراً.

بمعنى انه لو كان "ملحداً" مثلاً، "مثلياً"، أو يشرب المشروبات الكحولية، فسأعمد إلى "الغض من النظر" عن "النقوص" التي فيه، وأنا "مقتنعة" أني "افضل منه" الف مرة.

هذه الطريقة في التعامل لا اقبلها، وأرفضها. فما أدراني، لعله هو افضل مني الف مليون مرة. في إنسانيته، في أحساسه بالناس ومصابهم، في انتاجه وإبداعه، في صداقاته، وفي بسماته. ما أدراني؟

ثم هل المعيار في التعامل الأنساني "الإيمان بدين"؟ أو الالتزام "بمسطرة خلقية" حدد قواعدها إناس لم يقدروا على الحياة فلعنوها؟

مثل هذا المعيار يفرق بين الناس، يباعد بينهم، ويجرح في انفسهم كثيراً. تماماً كما أنه معيار لا يلُم بمكنون الإنسان، بالتعقيد الذي فيه، وبالخير الذي فيه.
مالذي يجعل الإنسان إنساناً فعلاً؟ أن يؤمن او لا يؤمن؟ شأنه. لن يحوله إلى انسان افضل او أسوأ. بل سلوكه وعطاءه لبيئته هو المحك. وكم منا يقف وزبيبته على رأسه، وبعض شيوخنا مثال على ذلك، ولا يلوك لسانه سوى حديث الكراهية؟

أتعامل لذلك مع من حولي "كما هم". "كما يفعلون". وأقبلهم "كما هم". ليسوا "افضل أو أسوأ". بشر هم. مثلي. والخير هو فيما نفعله لمن حولنا. "ماذا فعلت لغيرك، قبل نفسك؟" لا أقل ولا أكثر.

الدين لذلك ليس مرجعي. ليس عندما يتعلق الأمر بالأمور الحياتية.
ولذلك عزيزي القاريء، عندما اتحدث عن المرأة، عن جسدها، لا أجعل من الدين أيضاً مرجعي.
ليس الدين مرجعي.

كل الاديان، بغض النظر عن أي دين نتحدث عنه، تعاملت مع جسد المرأة على أنه "شيء لا يخصها". يجب لفه في ورق سولفان، وركنه في رف، في أنتظار أن يأتي الشخص المناسب. والشخص قد يكون مناسبا او غير مناسب، المهم عريس والسلام، يُخرج "الشيء" من غطاءه، يبعث فيه الحياة، أو يدفنه. ما يحدث بعد ذلك ليس مهما. المهم أننا وضعنا ذلك "الشيء" في إطار نسيطر عليه، ونمأسسه.
و"الشيء" هو العلاقة الجسدية للمرأة.

لا أقحم الدين في الموضوع، لأني اعرف انا الأخرى، أنه عندما يتعلق الأمر بهذا "الشيء"، ما نقوله شيء، ومانفعله شيء اخر.
ما نقوله شيء، وما نفعله شيء اخر.
واترك لخيالك حرية الإبحار في عوالم ما نفعله!

أٌُصر اخي أن ما نفعله في واقعنا لا علاقة له بما نقوله، حتى في مجتمعات شبه الجزيرة العربية، بكل متاريسها الأجتماعية الخانقة، او بالأحرى، خاصة في مجتمعات شبه الجزيرة العربية، لأن الكبت لا يولد سوى الإنفجار، والمصائب معها.

ولذلك تجدني دائما اخي مندهشة.
مندهشة من مقدرتنا على الكذب على أنفسنا، على خداعها، من الإصرار أن مجتمعاتنا "لا تمارس ما تفعله المجتمعات الأخرى"، وخاصة "الغربية" منها.
في حين أن رجالنا يمارسون "كل" ما تفعله تلك المجتمعات، و"أكثر"، "وبشراهة" تدفع الكثير من افراد تلك المجتمعات إلى التندر بسخرية عليهم.
"عقولهم بين افخاذهم".
أتعرف كم مرة سمعت هذا التعليق؟

تماماً كما أن كثيرا من نسائنا تعلمن كيف يتماوجن مع القواعد والمحظورات إلى "حد"، بعضهن يَخفن من اجسادهن، لأنها "مصيبة" حطت عليهن، وبعضهن يلتزمن بما قيل لهن، وغيرهن لا يأبهن، "يفعلن ما يردن" إلى "حد".
ولذلك تخرج كثير من علاقاتنا الحسية "مشوهة"، كجنين كان يمكن ان تكتب له الحياة لولا أنه خرج إليها "مصاباً بالجذام".

هذا عدا أن هناك كثيرا من شرائحنا الاجتماعية، خاصة في الدول العربية خارج الجزيرة العربية، تعيش واقعاً لا علاقة له بما "ندعي انه فينا". المصادقة و المساكنة، كلها تعبيرات دخلت إلى قاموسنا اللغوي، حتى ونحن نزعق بمفاهيم السلفية الدينية بأعلى حناجرنا.

على حين نبحث نحن في جزيرتنا عن مخرج لا "يحرجنا"، فنسميه زواجاً "عرفياً"، "مسياراً"، "متعة"، لا يهم أي لقب نستخدمه، المهم ان نحدد له هالة "مشروعة"، نطمس بها معالمه الأساسية والتي لا تتجاوز بديهية أن رجلا وأمرأة ارادا ان يمارسا علاقة حسية في مجتمع لا يريد أن يعترف أن هناك شيء أسمه رغبة.

والمحك، المحك في المسألة كلها، هو موضوع "الوصاية"، على الإنسان أولاً، ثم تلك التي نصر على انها ضرورية في تعاملنا مع المرأة.
أنت كأب، كأخ، كزوج، وصي على هذا "الشيء".
والوصاية قد تكون محبة حنونة، أو قاسية جلفة، لكنها في النهاية تظل "وصاية". تؤطر لعلاقة فيها تابع ومتبوع. وأنتِ التابعة وهو المتبوع.
تسألني أيها العزيز "أذا تأخرت أختي عن البيت إلي ساعة متأخرة من الليل فهل يحق لي أن أسألها لماذا تأخرت وأين كانت ومع من كانت؟" وأسألك بدوري: "إذا تأخرت أنت عن البيت إلى ساعة متأخرة من الليل فهل يحق لها أن تسألك لماذا تأخرت، وأين كنت، ومع من كنت؟"
لو أجبت بنعم، أرد عليك بنعم أنا الأخرى.
لو كانت علاقة ندية، لقبلت بها.
لكنها ليست كذلك ابداً.
يعطي الرجل لنفسه الحق ان يكون وصياً على المرأة، ويتعامل معها من منطلق "الملكية"، لا "الندية".

تقول لي "الحرية ليست مطلقة".
وأنا مضطرة أن أناقضك. بل رأيي انها "مطلقة". فلو كانت الحرية التي نتحدث عنها تعني أن الإنسان ولد حراً، له إرادة، وقادر على أن يتحمل مسؤولية قراراته، رجلاً كان أم إمرأة، فإنها تظل مطلقة. ليست هبة.
ولد بها الإنسان، حقاً طبيعياً له، لا مساومة عليها.

لا يمكنني أن اطالب بالحرية واتجاهل ماتعنيه مضامينها في الواقع. فمتى ما قبلت بها، فلن يكون هناك مجالاً للوصاية التي نمارسها اليوم في مجتمعاتنا على الإنسان أولاً، ثم على المرأة بصفة خاصة.
لن يكون هناك مجالا لذلك أيها العزيز، إلا أذا اصررنا على دفن رؤوسنا في الرمال ككل مرة.
من هذا المنطلق أقول "جسُدها، حقُها، مسؤوليتها".

أعرف أن رأيي هذا لن يعجبك. وسيزعجك. ووالله أن هناك اوقاتا تمر علي تمنيت فيها أن اخرس قلمي، كي اجنب من احبهم الوجع، أو الحرج.
لكن الصمت، الصمت هو من يخنق احلامنا.
ولعلك عزيزي سترد علي من جديد. لكنك آسرتني بأحترامك لآداب الحوار، وقررت لذلك أن لا أتجاهل ما قلته، وأن اشرح لك وجهة نظري.
كل ما أتمناه عليك أيها الأخ العزيز أن لا تحرق أربع سجائر وأنت تقرأ هذا المقال.
أشرب كوباً من الماء، هو اصح لك.

الثلاثاء، 10 مارس 2009

أنا نجود!


أنا نجود. في العاشرة. ومطلقة!


هذا عنوان كتاب صدر حديثاً باللغة الألمانية لدار نشر كناور، ترجم عن الفرنسية، وكتبته الصحافية الفرنسية دلفين مينوي تحكي فيه قصة نجود.

هل تذكرونها؟

نجود، زوجها أبوها وهي في الثامنة، قبض ثمنها، ورماها لرجل في الثلاثينات من العمر. رجل الثلاثينات وعد اباها أنه لن يلمسها حتى تبلغ، وإبنة الثمان سنوات قال لها اهلها: لا تخافي، لن يؤذيك؛ والطفلة لا تفهم مايحدث. ذهبت معه، فأغتصبها!

هل تذكرونها؟

نجود! أرادت أن تلعب. طوال الوقت. أرادت أن تلعب. حتى بعد أن اغتصبها. حتى بعد أن ضربها. حتى بعد أن أصر عليها أنها أمرأة وعليها أن تتصرف كأمرأة. إبنة الثامنة، إمرأة؟ لكنها ارادت أن تلعب. طفولتها انتصرت. ورجل الثلاثينات يجرها من بين الأطفال إلى الغرفة، يجردها من ملابسها، ويفعل بها “اشياء وقحة”، هكذا حكت في المحكمة باكية. تريد أن تلعب، والرجل يصر على إغتصاب الطفلة.

ونحن، مجتمع الجزيرة العربية، مجتمع اليمن، نشيج بوجوهنا.

“لعنة الله على الفقر”، بعضنا، يمصمص شفاهه، ويحولق.

“أب متوحش”، غيرنا يقول، وينسى القانون الذي سمح للمتوحش ان يزوج ابنة الثامنة.

“ظاهرة ملعونة”، غيرنا يحشرج صوته، ينظر خلسة إلى وجه الصغيرة، ويتصور منظرها وهي تغتصب، ثم يغيب بخياله… المريض.

وغيرنا يقول إن الصغيرة عجينة، يشكلها الرجل كما يشاء. لايريدها بالغة، لا يريدها ناضجة، لا يريدها إمرأة عاقلة تكون له نداً ثم سنداً. يريدها طفلة. يشكلها كما يشاء، يوجهها كما يشاء، يقول لها تحركي، فتتحرك. يقول لها إمشي، فتمشي، ثم يقول لها نامي، فتنام معه.

لكنها لم تطاوعه، ما اروعها، رفضت فعله، لأنه شنيع. طفلة هي، هل نلومها؟

من يحميها من صمتنا؟ من يحميها من تواطئنا.

و… “زواج الصغيرة حلال”، يضيف بعض من شيوخنا. والبلاء هنا وخيم العاقبة. لعنة الله على شيوخٍ هكذا.

“حلال، حلال، حلال”.

لا يرون خللا في اغتصاب الطفلة. لايرون فيها جريمة. مسألة طبيعية. يقولون.

هكذا يقول رجال ديننا من السلفيين، وغيرهم من الشيعة لا يرى ضيراً من مفاخذة إبنة التاسعة. ولو كنا في مجتمعات أخرى، لإدُخلوا إلى مصحات نفسية لعلاج المجرمين الخطرين من منتهكي الطفولة. لكن الداعين إلى إغتصاب الطفلة نقف لهم في مجتمعاتنا احتراماً، ونخصص لهم برامج تلفزيونية، ثم لا نرى ضيراً في كل ذلك. أين الإنسان فينا. لا تصمتوا أمامهم. لنلقمهم حجراً. لنلقمهم حجراً.

نجود، هل تذكرونها؟

وحدها أدركت، أن ما يحدث بشع، بشع، بشع. لأنها طفلة أدركت هذا.

فقررت أن لا تستسلم لمصيرها.

“لاتستسلمي لمصيرك، أيتها الصغيرة القوية”.

استقلت سيارة اجرة، اخذتها إلى المحكمة.

قالت: سأقول لا.

“قولي أنت أيضاً لا”.

قالت: مصيري بيدي.

“قولي أنت أيضاً مصيري، ووجودي، بيدي ثم رهناً لإرادتي”.

فأنتصرت المحامية شذى محمد ناصر والقاضي محمد القاضي لطفولتها. ما أجمل الخير عندما ينتصر.

نجود، كيف ننساها؟

أظنكم تذكرونها.

جيداً.

فلا تشيحوا بوجوهكم.

وأظنكم تدركون جيداً أن ما يحدث جريمة.

لا تتجاهلوها إذن.

وما دمنا نعرف أن هناك جريمة تحدث، فالأحرى أن نعالج جذورها. أم أن الصمت دوما دوائنا؟

البداية كما تعرفون تكون عادة بالقانون. وبعدها بشيوخنا، لكن هذا حديث اخر.

ولذا، حان الوقت كي نلغي المادة 15 من قانون الأحوال الشخصية المعدل عام 1999، التي تعطي للأب الحق في تزويج إبنته إذا اعتبرها صالحة للوطيء. لا حظوا ان هذه المادة عدلت عام 1999، بعد أن كانت واضحة النص في تحديد السن الأدني للزواج ب15 عاماً.

لكنها عدُلت، وياخزي من تركها تمر هكذا. الناس يتقدمون، ونحن نمشي إلى الوراء، فأصبح من حق ولي الأمر أ ن يزوج إبنته إذا اعتبرها صالحة للوطء. . من يمنعه إذن إذا اعتبر ابنة الخامسة من العمر صالحة للوطيء؟

التغيير يبدأ بنا. فلندفع بإصدار قانون صريح واضح يحدد سناً ادنى للزواج، وحبذا لو كانت الثامنة عشرة من العمر هي ذاك الحد.

التغيير يبدأ بنا، ونجود هي صوت ضميرنا، فكفوا عن الصمت، ولنغير القانون. ثم لنلتفت إلى شيوخنا. لكن هذا حديث اخر.